* عود على بدء:
بالعودة إلى مقالي الأول المخصص لطاقم قتالي دشن هجوم الحرب الثانية « حرب الإستقلال » لن يجد صعوبة في تمييز الوجوه التي تشترك في صفة لا تخطئها العين؛ الرجال الثلاثة جميعهم من الرعيل الأول المخضرم والذين تقدم بهم العمر. كلهم يعاني، وإن بدرجات متفاوتة، من الأمراض المرتبطة بالشيخوخة وجروح الحرب. ومع ذلك هاهم الثلاثة ومعهم المئات بل الآلاف من المقاتلين المخضرمين الذين لا يبتغون بديلا عن جبهات القتال الأمامية حيث يزاحمون الشباب الأصغر سنا وينافسونهم في اقتحام المخاطر.
هذه اللوحة وحدها تعتبر أعظم رسالة للعدو لو كان يستوعب الدروس. فلو كان الجيش الملكي المغربي يمتلك زمام أمره لأخلى مواقعه و نفذ بجلده و له في من سبقوه عبرة. خاصة أن الجنود وأسرى الحرب المغاربة ما انفكوا يعتصمون أمام الوزارات و إدارات المخزن يطالبون بأبسط الحقوق، ولكن القرار بيد الأليزي لا بيد السادس، الملك الألعوبة.
* لو عادت بنا الذاكرة قليلا إلى الوراء لتذكرنا حال شعب يعاني الشتات، بعضه يعيش في ظل الإستدمار الإسباني والبعض الآخر موزع بين دول الجوار. ورغم تعدد المشارب والتشتت غداة إعلان الكفاح المسلح، كان نداء واحد ودعوة صدق: حي على الجهاد .. حي على القتال! كافيا ليتنادى الصحراويون من كل حدب وصوب تلبية للنداء، فإذا هم يمتشقون السلاح ويواجهون العدو ببسالة ويكبدونه أفدح الخسائر وكأنهم جيش قضى سنوات طوال ميزها الانسجام و تلقى التدريبات المعقدة العالية وتشرب من انضباط الجندية. ماتحقق في ذلك الزمن يعد حقا معجزة! جينات يحملها الصحرواي في دمه.
* ما الذي استجد؟
تم تطعيم جيش التحرير الشعبي الصحراوي طوال السنوات الماضية بآلاف الشباب المتطوعين، وهم اليوم يشكلون 80 ٪ وربما النسبة أكبر من ذلك.
عكس المقاتلين المخضرمين الذين تقدم بهم العمر والذين جاءوا من مشارب وأراضي متباعدة نسبيا، فإننا نلاحظ أن هؤلاء الشباب الذين أصبحوا يشكلون أغلبية ظاهرة في الجيش قد ولدوا وترعرعوا في مخيمات اللجوء، و درسوا و كبروا في أحضان الثورة وتنقلوا ما بين الأراضي المحررة و اللجوء، معظمهم لا يعرف من الوثائق الثبوتية إلا وثائق الجمهورية الصحراوية (باستثناء أقلية جاءت من بلاد الغربة).
* من يشاهد هؤلاء الشباب يتسابقون لإنجاز المهام القتالية بحماس وحمية واندفاع منقطع النظير سيظل أسير الدهشة والإعجاب ما ظل معهم ولن تفارقه الدهشة ما ظل على يتذكر الموقف.
هذه الرغبة التي لاتفارق هؤلاء الشبان من أجل حرق المراحل واكتساب الخبرات والتجارب ممن سبقهم من رفاقهم المخضرمين وقدامى المجاهدين. شباب يسابقون الزمن وينافسون الأكبر سنا في الأعمال القتالية وفي كافة المهام اليومية الأخرى. من يشاهدهم في الميدان سيدرك حقا أن استمرار الثورة قد ضمنه تواصل الأجيال. فنعم هذا الخلف لذاك السلف!
صدقوني، فشباب كالشباب الذي عايشته في الميدان رافقتهم وعشت معهم تفاصيل الحياة اليومية، شباب كهذا، لن يقف في وجهه العدو حتى ولو تسلح بعتاد وتسليح العالم أجمع! لا الرادارات ولا وسائل التكنلوجيا الحربية المتطورة ولا الأسلحة الأكثر تطورا يمكنها أن تمنع هؤلاء الشباب المقاتلين الميامين من تحقيق هدفهم المنشود.
هؤلاء الشباب يأخذون من أؤلئك الشيوخ المجاهدين التجربة الملموسة و النظرية التي اكتسبوها سنوات الحرب (حبذا لو بادرنا بدإلى تدوين تلك التجربة العظيمة حتى لا تضيع كما ضاع كل تراثنا المروي) و يترجمون ذلك على أرض الواقع.
هم شبان تخلوا عن ملذات الحياة وطيش العمر ومراهقات السن، حرقوا المراحل ليصبحوا في الميدان رجال، وما أعظمهم من رجال! لقد نذروا أنفسهم لقضيتهم العادلة وأرادوا،عن وعي، أن يقدموا أرواحهم فداء للوطن وأن يمدوا أجسادهم جسرا يعبر عليه الشعب إلى الحرية.
وقفت، وأنا مندهش أشد الإندهاش، من سرعة تكيفهم مع محيط المقاتل وميدان المعركة. وقفت على سرعة اكتسابهم للتجربة وسرعة إستيعابهم لكل ما يريدون معرفته، تجد الواحد منهم يتقن كل المهام فهو سائق ورامي وميكانيكي وطباخ.. ووو.
فعلا إن الحديث عنهم ذو شجون، لكنني رأيت بأم عيني وقائع لا يمكنني نسيانها ولم أكن أتصور ولا أتوقع تحققها، إحدى تلك الوقائع تمثلت في وصول قطع سلاح جديد و لم يكن في مجموعة المقاتلين التي انتميت إليها من يمتلك معرفة في استخدام ذلك السلاح. و شاع الخبر بين الكتائب الأخرى. الفضول قاد عددا من المقاتلين لمشاهدة السلاح الجديد. كان من بينهم رجل طاعن في السن كان يتفحص السلاح بدقة واهتمام وكان يقول أن هذا السلاح، أو « أحد أفراد عائلته » الذي يشبهه كثيرا كان اختصاصي فيه خلال سنوات الحرب. لكن بعد مرور ثلاثين سنة لم يعد متأكدا من أنه هو السلاح ذاته وإن لم يكن فهو شبيه به وقد يكون نسخة مطورة من السلاح الذي كان يتقن استخدامه. واستمر الشيخ في تصفح السلاح وهو يتمتم: » گلت لكم، هذا بعد ألا كيفت الخلاي اللي نعرف.. يغير هذا فيه روايات ماهم أفذاك » ! .
الشيخ المقاتل تطوع بإعطاء خبرته في السلاح الذي عرف للشباب المتلهف على استخدام السلاح الجديد. في تلك الآونة كان تلاميذ الشيخ أفراد من أركان الناحية، و أذكر جيداً أحدهم كانت يده في العجين و اليد الأخرى كانت تحمل كتيب دليل التعريف بالسلاح واستعماله.
كانت الشمس على وشك الغروب و رأيت قائد الناحية و منسق أركانها يحفزان الشباب على ضرورة استيعاب طريقة إستعمال السلاح الجديد، و كل منهما يردداََ غدا يجب أن يستخدم في دك جحور ومخابئ العدو! كنت أرى أن كلمات قائد الناحية و منسق أركانها تدخل في إطار التحفيز والتشجيع لا غير. ولم أعتقد أبدا أن كلماتهما ستكون واقعا وحقيقة ناجزة على يد هذا الشباب المعجزة.
بعد غروب الشمس رأيت أحد أركان الناحية يثبت مصباح « ظواية » بين ذقنه و كتفه ويوجه ضوء الظواية نحو الكتيب، دليل إستعمال السلاح، يقرأ منه و يترجم لرفاقه المنهمكين في الوقت نفسه في تنظيف السلاح وتحضير الذخيرة دون أن يشتت ذلك انتباههم!
السلاح الذي يحتاج مدرسة عسكرية ودروسا تستغرق أسابيعا وربما أشهرا للتدرب على استخدامه، يريد هؤلاء الشباب بمساعدة مقاتل مخضرم تقدم به العمر أن يستوعبوا أسراره بل وأن يستخدموه في المعركة مع الصباح! فهل يستطيع إصرار هذا الأب المجاهد وتلهف هؤلاء الشباب صنع المعجزة؟ هل أكون شاهدا على تحقق معجزة أخرى؟
أعرف أن الأمر يصعب تصديقه، لكن المعجزة تحققت فعلا ففي ليلة واحدة وفي ظروف صعبة جدا أستطاع ذلك الشيخ الجليل أن ينقل معرفته بنجاح معتمدا على ذاكرة لم تخنه رغم فراق ثلاثة عقود مع سلاحه، استطاع أن ينقل خبرته إلى الشباب المتلهف في ليلة واحدة. خبرة الشيخ المقاتل المجاهد الشجاع المحجوب /محمدفاضل /سيدي لعبيد ومعارف الشباب العلمية واللغوية التي ساعدت في فهم طلاسم دليل السلاح ساهمتا معا في تحقيق المعجزة.
مع الصباح كان السلاح الزائر قد أصبح ضمن أسلحة الناحية التي تدك قواعد العدو. تلك معجزة بكل المقاييس كنت شاهدا على تحققها.
الطريف أن الإخوة الذين تدربوا على ذلك السلاح في تلك الليلة اليتيمة وهم:
(ع/ع/ح) و (م م/ ع/ب) و
(أ/أ ب/ن) و (س أ/ب/ب)؛ كان برفقتهم شاب شاركهم في العملية العسكرية. والمدهش حقا في الأمر أنه تعلم أسرار السلاح الجديد بمجرد الملاحظة التي أعقبها تجريب السلاح بنفسه رغم أنه لم يكن حاضرا معهم « درس البارحة ». ومن يومها أصبح أحد هؤلاء الشبان الرماة المهرة المتخصصين في ذلك السلاح. ذلك الشاب بدوره نقل التجربة إلى طقمه الذي أصبح كل أفراده يتفنون في استخدام السلاح الجديد.
* عبرة:
بعد هذه المشاهد الميدانية خرجت بانطباع هو أن المعجزة ليست تلك الإنجازات التي حققها المقاتل الصحراوي سواء في الحرب الأولى أو الثانية فتلك ثمار المعجزة، أما المعجزة الحقيقية فهي هذا الإنسان الصحراوي، ابن هذه الأرض، الذي أودع فيه الله إيمانا لا يتزعزع وإرادة لا تعرف المستحيل.
* ملاحظة: كنت أرفقت مقالي الأول بصور مقاتلين مخضرمين من الجيل الأول. أما هذا المقال أردت أن أرفقه بصور هؤلاء الشبان الذين برعوا في استخدام السلاح موضوع التدوينة. هم نموذج من شبابنا الذي يستحق أن يكون اسمه مرادفا للمعجزة، والذي سيكون النصر على يديه بحول الله. وما النصر إلا صبر ساعة.
ترقبوا المزيد من الإنطباعات والمشاهدات في الأيام المقبلة بحول الله.
و يبقى عيب الدار على من بقي في الدار.
النخ بدة.
Soyez le premier à commenter