الانسحاب المستحيل

المغرب حزب الإستقلال، الملك محمد السادس، 

الجمعة, 17 أيار/مايو 2013 13:26

علي أنوزلا


الضجة التي أثارها ما يسمى قرار حزب « الاستقلال » بالانسحاب من الحكومة سرعان ما اتضح أنها مجرد « جعجعة بدون طحين ». لقد بات من المؤكد أن الانسحاب لن يحدث، إن لم يكن من المستحيل حدوثه لأمرين:


أولهما، هو أن قرار الانسحاب والمشاركة في الحكومات أو الاستقالات منها ليس قرارا مستقلا سياديا تملكه الأحزاب ويتصرف فيه الوزراء، وإنما هو قرار بيد الملك الذي مازال يعيِّن ويُعفي ويقيل ويرضى ويغضب… ولعل أهم ما كشفته هذه « الأزمة » هو محدودية بل وزيف خطاب الإصلاحات الدستورية التي أنفِـق عليها الكثير من أموال الشعب. لقد كشفت هذه « الأزمة » (نضعها بين قوسين لأنها مفتعلة) بأن الملك لازال هو اللاعب الأساسي داخل المربع السياسي، وأن دوره يتجاوز دور الحَكم إلى دور المقرر على رأس هرم الدولة وحتى داخل الأحزاب.

ففي الوقت الذي ينتقد فيه حميد شباط، الأمين العام لحزب « الاستقلال » رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ويزايد عليه بأنه عاجز عن ممارس « اختصاصاته » كرئيس الحكومة ويتركها للملك، يقوم شباط هو الآخر بتفويض « صلاحياته » كأمين عام للحزب إلى الملك، عندما يختبئ وراء فصل من فصول الدستور للاستغاثة بالملك ليقرر مكان الحزب وأجهزته وأمينه العام، وهذه بدعة ما وراءها بدعة. فالمؤكد اليوم هو أن القرار الذي اتخذه الملك (بقاء وزراء حزب الاستقلال في الحكومة) هو القرار النافذ، والقرار الذي سيتخذه الملك عندما يعود غدا من رحلته الخاصة، هو الذي سيصبح نافذا وسيٌستدعى الحزب وأجهزته وأمينه العام لتزكيته ومباركته بالتصفيق والتهليل، ومعنى ذلك أن حزب الاستقلال ليس له لا قرار ولا استقلال.

الأمر الثاني وهو أن حزب « الاستقلال »، لا يمكنه العيش خارج الحكومة، فمنها يستمد قوته ووسائل تعبئته لـ « قواعده » وصيانة « آلته » الانتخابية، والمرة الوحيدة في تاريخ الحزب الطويل التي خرج فيها إلى صحراء المعارضة (نحو عشر سنوات منذ نهاية الثمانينات وحتى مشاركته في حكومة التناوب عام 1998)، أصابه الوهن والضعف الذي عكسته نتائج مشاركته في انتخابات تسعينيات القرن الماضي مما دفعه إلى التحالف مع غريمه التاريخي « الاتحاد الاشتراكي » ونقابته، في إطار ما سمي بـ « الكتلة الديمقراطية »، للحفاظ على تماسكه في انتظار عبور صحراء المعارضة القاحلة.


لقد تم الترويج خلال هذه « الأزمة » إلى خطابات أبعد ما تكون عن الحقيقة، من قبيل أن قرار الحزب هو قرار « ديمقراطي » أفرزته أجهزة الحزب طبقا للمساطر الديمقراطية المتبعة داخله.

وهذه هي أكبر كذبة. فقرار الحزب كان جاهزا واستُدعي أعضاء المجلس الوطني لمباركته وتزكيته. وما لم ينتبه إليه المراقبون هو أن القرار رغم أهميته في تاريخ الحزب لم يخضع للتصويت وإنما تم « تمريره » بالإجماع والتصفيق، مع العلم أنه عشية انعقاد المجلس الوطني للحزب عبرت أصواتٌ من داخله عن معارضتها للخروج من الحكومة، لكن صداها ذاب وسط جوقة الإجماع الجاهز والمبرمج أو « المخدوم » على تعبير الاستقلاليين أنفسهم.

الخطاب الثاني الذي تم الترويج له هو أن الحزب وأجهزته وأدوات اشتغاله كلها تخضع للقواعد الديمقراطية. وهذه هي أكبر مغالطة في تاريخ هذا الحزب الذي يصف نفسه بالديمقراطي.

فالمعروف هو أن حزب « الاستقلال » طيلة تاريخه بُني على « الولاءات ». الولاء للزعيم بالأمس، و »التزلف » للأمين العام اليوم.

أما أجهزة الحزب وخاصة « برلمانه » الممثل في مجلسه الوطني، وهو الجهاز الذي تتخذ باسمه القرارات الكبيرة فهو أبعد ما يكون عن المؤسسة الديمقراطية. فعدد أعضاء هذا المجلس غير محدد (يناهزون الألف، أي أكثر من برلمان الحزب الشيوعي الصيني الحاكم الوحيد في بلاده)، ووجودهم داخل المجلس الوطني لا يخضع للانتخاب وإنما للتعيين من طرف مفتشي الحزب في الجهات حسب نظام « الحصة » (الكوطة) الذي يخضع هو الآخر لموازين القوى الشخصية داخل الحزب التي يحددها نفوذ الشخص في منطقته وثروته وقربه من السلطة وولاؤه لقيادة الحزب النافذة… وأعضاء هذا الجهاز أي « المجلس الوطني » هم الذين يتحكمون في مؤتمرات الحزب ويحددون خياراته الكبرى، بل هم « الحزب » الذي لا توجد له امتدادات شعبية وإنما مصالح يشتري بها الولاءات من خلال شبكة علاقات معقدة منتشرة داخل أجهزة الدولة تستعمل مقدرات الدولة وآليات السلطة وإمكاناتها ونفوذها لصيانة هذه الشبكة وتوسيعها. ومن هنا يبقى استمرار الحزب داخل الحكومة ضروريا لبقائه واستمراه، لأنه هو الذي يمنح هذه الشبكة فعاليتها وقوتها وحيويتها ووسائل اشتغالها المادية والرمزية…


يبقى السؤال الأهم حول الهدف من وراء افتعال هذه « الأزمة »، وهنا مربط الفرس، لأنه عندما « يعرف السبب يبطل العجب » كما يقول المثل المأثور.

فالظاهر من خلال تصريحات قيادة ‘الاستقلال’ ومذكراته إلى رئيس الحكومة هو أن الحزب « انتفض » ضدا على: تسلط رئيس الحكومة واحتكاره لقراراتها، وعلى ضعف الأداء وعدم صواب القرارات، وأخيرا على لا شعبية القرارات التي اتخذتها الحكومة.

أما الحقيقة المسكوت عنها فهي أن شباط وأتباعه يريدون إعادة توزيع « كعكة » الحكومة لتسخيرها لخدمة مصالحهم الشخصية والحزبية.

وقد سبق شباط إلى هذه « المناورة » سلفه على الأمانة العامة للحزب عباس الفاسي عندما ظل يرفع عقيرته لإنتقاد حكومة عبد الرحمن اليوسفي التي كان حزبه مشاركا فيها، وعند أول تعديل حكومي شهدته تلك الحكومة ادخل عباس الفاسي نفسه إليها وزيرا للتشغيل فابتلع لسان نقده الطويل وحتى يوم الناس هذا! وكنت ومازلت عند القناعة التي تقول بأن تعيين الفاسي وزيرا أولا عام 2007 لم يكن سوى عقاب ملكي جماعي لأكثر من 67 في المائة من المسجلين في اللوائح الانتخايية (دون احتساب غير المسجلين) لمقاطعتهم لانتخابات عام 2007 التي عرفت أكبر عزوف شعبي عنها.

لذلك، عندما نتأمل تاريخ الحزب القريب سنكتشف مجددا زيف هذه المبررات التي قدمها الحزب وقيادته للمرافعة حول صواب قراره.

فالحزب هو الذي قاد التجربة الحكومية السابقة، وكان أمينه العام السابق عباس الفاسي يقول بأن برنامج حكومته مستمدٌّ من « توجيهات الملك »، وحينها لم نسمع أي صوت من داخل الحزب ينتفض لانتقاد ضعف شخصية الوزير الأول السابق، وقبل حكومة عباس الفاسي ظل زعيم الحزب يجلس في كرسي شبه فارغ (وزير دولة بدون حقيبة) داخل حكومة إدريس جطو المعين، ولم نسمع يوما من انتقد تلك التجربة من داخل حزب « الاستقلال »، الذي يزايد اليوم على رئيس حكومة المفترض أنها « منتخبة » ممن شاركوا في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

كما لا يجب أن ننسى أن الحزب الذي ينصب اليوم نفسه مدافعا عن المعطلين وعن القدرة الشرائية للمواطنين يجر وراءه أكبر فضيحة شردت 30 ألف أسرة مغربية و تسببت في 6 حالات انتحار، هي فضيحة « النجاة » التي يتحمل مسؤوليتها الأمين العام السابق للحزب وأطره داخل الإدارة (خاصة الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات ANAPEC ).

كما أن الحزب الذي يزايد اليوم على رئيس حكومته بأنه عاجز عن محاربة الفساد هو نفسه يحمي مشتبهاً بهم في الفساد (نموذج ياسمينة بادو وكاتبها العام السابق، المشتبه في تلاعبهما في أموال اللقاحات الخاصة بالأطفال، وهما اليوم عضوان مقرران داخل لجنته التنفيذية ومقربان من أمينه العام)، بالإضافة إلى ما يثار ويُكتب من فضائح نبهت إليها هيئات حماية المال العام، ارتكِبت في عهد توفيق حجيرة وزير التعمير السابق(برنامج مدن بلا صفيح)، وكريم غلاب وزير التجهيز والنقل السابق (صفقات ردارات مراقبة السرعة على الطرق).

فكلاهما ظل يدير قطاعات مهمة لمدة ولايتين حكوميتين وخلفا وراءهما الكثير من الفضائح التي لم يُكشف عنها حتى اليوم، وهذا ما يجعلهما يختبئان وراء خطابات زعيمهما الشعوبية لدرء أي هجوم عليهما.


دون أن ننسى أعضاء آخرين أقحمهم الأمين العام الحالي للحزب داخل لجنته التنفيذية لمصالح متبادلة، هو يحتاج إلى نفوذهم في مناطقهم والذي يشترونه بأموالهم المشتبه في مصادرها (نموذج حمدي ولد الرشيد وفوزي بنعلال)، وهما يحتاجان إلى حماية سياسية لمصالحهم.

يضاف إلى ذلك أعضاء بلا شخصيات حقيقية لا ترى في الأمين العام الحالي للحزب سوى ولياً لنعمتها (نموذج عبد القادر الكيحل وعبد الله البقالي وعادل بنحمزة)، والباقي مجرد هياكل منخورة « لا تهش ولا تنش »، دون إغفال الحماية التي وفرها ولا يزال شباط لمحماد الفراع الرئيس السابق للتعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية المحكوم بالسجن النافذ بتهمة الفساد ولكنه لا زال يصول ويجول أمام صمت بنكيران وحكومته ووزيره في العدل.


وأخيرا فإن جزءً كبير من أزمة المغرب اليوم، وتفقير طبقاته الشعبية واستشراء الفساد داخل الدولة والمجتمع، هو نتيجة تراكم سنوات الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام والتي ظل حزب ‘الاستقلال’ يشارك فيها أو يؤيدها أو يقودها، تحت الإشراف المباشر من القصر الذي لا يجرؤ أي عضو في حزب « الاستقلال » مهما علا شأنه على انتقاد تسلطه وفساده واستبداده.


السؤال ما قبل الأخير هو البحث عن خلفيات هذه « الأزمة » وعلاقتها بالقيادة الجديدة للحزب.

هل هي تعبير شخصي من طرف الأمين العام للحزب لإثبات ذاته وفرض شخصيته؟

أم أنها إبداء لاستعداد الحزب لتسخير موقعه داخل الحكومة لخوض حرب من الداخل بالوكالة عن جهات سلطوية يسعى إلى نيل رضاها؟

أم أنها مجرد انعكاس لأسلوب شعبوي في إدارة الخلافات السياسية من خلال « المزايدات » و »ليِّ الذراع » وهو الأسلوب الذي اختبره شباط، الأمين عام لنقابة حزبه، لفرض شروطه كنقابي ويريد تجريبه اليوم كسياسي؟

أم أن كل هذه الاحتمالات تراكمت إلى أن تشابكت خيوطها، فوجد صاحبها نفسه، كما هو الحال اليوم، في موقف لا يحسد عليه، لا هو خارج الحكومة ولا هو منسحب منها، فوقف مثل « حمار الشيخ فوق العقبة »!


بقي السؤال الأهم: لماذا إذن افتعل حزب « الاستقلال » هذه « الأزمة »، أو فُرض عليه أن يفتعلها

ومن هو المستفيد الأول منها؟


الجواب عن الجزء الأول من هذا السؤال يجب أن نبحث عنه في تصريحات حميد شباط نفسه، والذي عندما يخونه لسانه يتهم حزب « العدالة والتنمية » بـ « تونسة » و »مصرنة » المغرب،


وهذا لم يكن خطاب حزب « الاستقلال » وإنما هو انعكاس لخطاب رسمي سبق الربيع الديمقراطي الذي شهدته مصر وتونس، والذي كان يرى في كل ما هو « إسلامي » تهديداً لـ « الاستقرار » ونظيراً لـ « الإرهاب ».


ويمكن فهم لماذا يستعير شباط هذا الخطاب الرسمي، فهو يعتقد أو ربما أوحِي إليه بأنه بذلك يقدم خدمة لصاحب الخطاب الرسمي،

وما يضعه في موقف الضعف هذا لتقديم خدماته هو مشاكله الشخصية (تقارير المجلس الجهوي للحسابات عن جماعة مدينة فاس التي يرأس عموديتها والتي كشفت عن وجود اختلالات مالية وسوءً في التدبير) ومشاكله العائلية (متابعة اثنين من أبنائه أمام القضاء في قضايا مخدرات وتزوير).

وليست هذه هي المرة الأولى التي يعبر فيها شباط عن استعداده لخدمة الجهات التي تحميه، فقد سبق أن فعل نفس الشيء عام 1991 عندما اندلعت انتفاضة فاس، فقد تم الإفراج عن شباط دون باقي النقابيين والمعتقلين أياما قليلة فقط بعد اعتقاله، ومنذ ذلك التاريخ « التقطته » السلطة ممثلة في وزارة الداخلية في عهد إدريس البصري لتلميع صورته وتقوية نفوذه داخل مدينته ونقابته وحزبه لتصنع منه ما هو عليه اليوم.


أما الجواب عن الجزء الثاني من السؤال

فالأكيد هو أن « الأزمة » الحالية أضعفت الحزبين معا:

« الاستقلال » الذي عبر عن محدودية استقلالية قراراته ومناوراته،

و »العدالة والتنمية »، الذي يقبل السير بأغلبية مكبلة من جميع الجهات وداخل حذاء أغلبيته حصى كبيرة اسمها حميد شباط تدميه وتزعجه وعليه تحمّل ألمها والاستمرار في التعثر إلى أن يُنهك فتخور قواه…


أما المستفيد الأول فهو القصر الذي أثبتت مظاهر هذه « الأزمة » نفوذَه و »حاجة » الدولة إلى وجوده لضمان « الاستمرارية » و »الاستقرار »، في غنى عن وجود « الأحزاب » وصراعاتها الصبيانية والفاقدة لـ »السميك » (الحد الأدنى) الفكري !

وهذا هو الخطاب الرسمي الذي يروج له النظام ويتبناه جزء من الطبقة السياسية وشرائح من نخب المجتمع ومثقفيه، وهو ضرورة أن تبقى الملكية في المغرب ملكية تنفيذية بل وسلطوية، وحتى قمعية إذا اقتضى الحال ذلك.

أما الخاسر الكبير من كل هذه « المسرحية » الرديئة، فهي السياسة بمفهومها النبيل، فما حصل وما ترتب و ما سيترتب عنه من انعكاسات وردود أفعال عند الفاعلين السياسيين سيزيد من تعميق الهوة بين الناس والسياسة وسيضاعف من فقدان الثقة في ما تبقى من فعل سياسي حقيقي ونبيل.


وبعد الخاسر الكبير، فالخاسر الأكبر هو الوطن الذي ابتلي بمثل هكذا أحزاب وساسة.

Lakome.com