حروب الدسائس والوشايات في بلاط محمد السادس – المغرب، فؤاد علي الهمة، ياسين منصوري، محمد منير الماجيدي، برشدي الشرايبي، خالد الودغيري، حسن أوريد، إدريس البصري، الحسن الثاني،
أنجزتُ خلال منتصف شهر فبراير من سنة 2009 ملفا حول « وشايات البلاط الملكي » وذلك بناء على مُعطيات كانت حينها قيد التداول في الصالونات السياسية بالعاصمة، عكستها بعض الصحف في شكل أخبار مقتضبة.. ولأسباب ما زلتُ أجهلها لم يتم نشر الملف في الأسبوعية التي كنت أعمل بها حينها (المشعل).. وفي زحمة انشغالات آنئذ سهوتُ عنه (الملف) وظل في أرشيفي ثاويا.. واليوم أضعه في دائرة النشر هنا بمدونتي، توخيا لتعميم قد يكون مُفيدا، ونظرا لطول سطور وصفحات الملف ارتأيتُ تقسيمه إلى أربعة أجزاء.
مقدمة الملف
ما الذي دفع الملك محمد السادس،ليجمع في أحد الأيام القليلة الماضية، بعضا من أقرب مساعديه، وتحديدا رفاق الدراسة، منذ مرحلة اليفاعة، للقيام بعملية إصلاح ذات البين، وإطفاء لهيب الصراعات، التي احتدمت بينهم، وصارت حديث الناس، في صالونات العاصمة، وتُنشر أخبارها على أعمدة الجرائد، كما ذكرت إحدى الصحف مؤخرا؟
فما هي تفاصيل صراعات أقرب مُساعدي الملك، في أكثر من مجال؟ وما هي بعض جزئيات السباق بينهم، لاكتساب قصب السبق في تسيير دفة الأمور بخيوط دقيقة؟
وإذا شئنا التوضيح أكثر، كيف حاول فؤاد علي الهمة، أن يسحب البساط من تحت قدمي الكاتب الخاص للملك « محمد منير الماجيدي » وذلك من خلال محاولة « التسلل » إلى قلعته المالية والاقتصادية؟ وكيف رد الماجيدي؟ وبين هذا وذاك، ما هي المُعطيات المرتبطة بصراعات باقي رفاق الملك، في أكثر من ملف؟ وكيف تُصنع الوشاية في البلاط
الملكي، لتتحول إلى قرارات، تسري على أكثر من ملف وقضية؟
الأكيد أنه بين قرار عزل، وآخر للتعيين، في العديد من المناصب الحساسة للدولة تكون « الوجبة » قد مرت من عملية « طبخ » على نار هادئة، أو ملتهبة (تُحرق أحيانا قفازات وأصابع أصحابها) في الأبهاء والأركان المُعتمة لدار المخزن، حيث يكثر دأب الدائبين « وسعي » الساعين، لتدبير » المقالب » تارة، وإعداد السيناريوهات، للخلوص إلى غايات بعينها. وفي خضم ذلك تُصنع مسارات أشخاص، وتُمحق لآخرين، وبذلك تستمر واحدة من خصوصيات السلطة المخزنية في بلادنا، أي الوشاية، محتفطة بكامل قوتها وعنفوانها. في الملف الضافي التالي، تقليب للموضوع إياه، على أكثر من وجه، وعموده الفقري، العديد من المُعطيات التي استقيناها من أكثر من مصدر. وآراء متابعين مدققين.
سيرة الدسيسة والوشاية في سلطة الحكم الفردي بالمغرب
المعارك الصغيرة الطاحنة، والدسائس الرخيصة، وتصفية الحسابات الشخصية.. إلى غيرها، من السلوكات، المطبوعة بضيق الأفق، لدى بني البشر، كانت دائما من الخصائص اللصيقة، ببلاطات أنظمة الحكم التقليدية، عبر تاريخ بني البشر قديما وحديثا، غير أن هذا لا يمنع، من وجود خصوصيات لكل مجتمع على حدى، في تصريف طريقة الحكم، والأمور المتفرعة عنه.
بالنسبة للمغرب، وكما تُفيد كتب التاريخ، فقد كان دائما مطبوعا بنظام الحكم الفردي، كان ذلك مع الممالك الموغلة في القِدم، كما تكرس مع عهود الحكم القريبة نسبيا، سواء مع السعديين أو المرابطين أو الموحدين أو المرينيين ثم العلويين، ويُمكن القول أن هؤلاء الأخيرين، الذين حكموا المغرب، ما يقرب من ثلاثة قرون ونصف (1666-2010) طبعوا ببصماتهم نمط الحكم، واحتفظوا به عبر متغيرات محلية ودولية، بالغة التعقيد. و في الوقت الذي كان مُنتظرا، غداة الاستقلال (1956) أن يعرف الحكم شكلا من أشكال التنظيم الحديث، ينقل المغرب، من التخبط في سلبيات التخلف، بسبب الطابع الفردي والاستبدادي، لنمط الحكم،.. بدلا من ذلك، توفرت شروط موضوعية وذاتية، أعادت البلاد إلى ذات مساوىء، وأخطاء نمط الحكم، التي جَرَّتْ سلبيات الأمس القريب (التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي…).
أصر الحسن الثاني، حين تسلمه الحكم (فبراير سنة 1961 ) على الاحتفاظ بكل السلطات التنفيذية والتشريعية، وسَوَّرَ –
من السور – مُحيط نفوذه، ليس فقط بدساتير مُفصلة على مقاس الحكم الفردي، بل استفاد من مُعطيات التحديث الغربية، في وضع مشهد سياسي واجتماعي وأمني.. إلخ، لحماية نمط حُكمه المذكور، من منافسة المتنافسين، على شرعية اقتسام السلطة، وكانت تلك الصراعات الدامية، على مدى أربعة عقود، التي أسفرت عن الخريطة السياسية والمجتمعية والاقتصادية، التي يوجد عليها المغرب راهنا.
وكان من لوازم تكريس نمط الحكم الفردي، الاعتماد على بِِطانة مُقربة من الملك، تمثلت في المُستشارين والمُعاونين، وباقي النافذين في الدولة، الذين يتوصلون مُباشرة من الملك الحسن الثاني، باختياراته في تسيير شؤون البلاد، وبذلك كان طبيعيا، أن « تينع » ذهنية البلاط كما في أنظمة الحكم التقليدية، عبر التاريخ، وقوامها – أي الذهنية – ما ذكرناه في صدر هذه الورقة، من معارك طاحنة، وتصفية حسابات شخصية، حيث كل طرف يسعى لِنيل رضا الملك، وقربه، أكثر من باقي المُتنافسين، وبذلك تم وضع حتى النصوص الدستورية، على علاتها، في خلفية المشهد السياسي، ومعه كل مكوناته البرلمانية والحزبية، وباقي مؤسسات الدولة.
واليوم، بعد مرور زهاء عشر سنوات، على رحيل الحسن الثاني، ما زال المغرب مطبوعا بقوة، بذات « بصمة » الحكم الفردي، حيث إن القصر يُعتبر مصدر كل السلطات التنفيذية والتشريعية، لذا فإن ثمة رجال نفوذ جدد، مُتحلقون حول نواة السلطة المُطلقة في الدولة، يتشكلون من ما اصطُلح عليه بزملاء دراسة الملك، والمستشارين المُخضرمين، وكبار رجال أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، وبالتالي استمرار ذات نمط الحكم الشديد المَركزة.
وحسب مُعطيات مُتوفرة، فإن الصراعات على أشدها، في البلاط الملكي، بين المُتنافسين، على الحظوة لدى محمد السادس، حيث تُستعمل كل الطرق (بما في ذلك الضرب تحت الحزام – وبعض المُعطيات التي تجدونها ضمن هذا الملف تُفيد ذلك) للوصول إلى الغاية، وهي: مَنِ الذي ينال مكانة أقرب من الملك، وبالتالي يُكتب لشخصه المزيد من النفوذ، في مغرب يشكو من فراغ رهيب، في مجال توفر إرادات وكفاءات سياسية، تُساهم في إنتاج أفكار جديدة، لمُواجهة المشاكل المُقيمة، و »طوارىء » تدبير الشأن العام.
يقول أحد الذين جمعوا بين مسؤولية تدبير شأن السلطة، وإنتاج الأفكار بشأنها: « الملك تحذوه رغبة في التغيير، لكنه لا يتوفر على الأشخاص المُناسبين، والوسائل الكافية، وهو وضع يجعلنا نعيش في فراغ اللامسؤولية » مستطردا: « وهذا يُفسر كثرة تنقلات الملك الميدانية، فهو يُحاول سد الفراغ الحاصل، لكن إلى متى؟ » ثم يُضيف: « الملك غير مُهيأ للجزئيات، بل للملفات الضخمة، ذات الطابع الاستراتيجي، وبالتالي يتأكد أن بلادنا تعاني من مرض اسمه: اللامسؤولية ».
نمط الحكم في المغرب ينتقل بالوراثة، ونظرا لخصوصياته، الثقافية والاجتماعية والتاريخية، الفريدة، فإن كل شيء يَنْصَبُّ على الملك، وهو وضع عجيب. لماذا؟ يُجيب نفس مصدرنا السابق: « إننا نوجد أمام تناقض كبير، على أعلى مُستويات الدولة، حيث تتكرس عقلية اللامسؤولية، والجمود مُقابل حركية البنى التحتية المُجتمعية، التي تنتظر تغيير الواقع غير المُريح، وفي نفس الوقت هي تنحو إلى طابع المُحافظة الأقرب إلى التطرف ».
وهنا يجدر الحديث عن خصوصياتنا الاجتماعية والثقافية، فكما قال مرة، المُعمر في السياسة والسن، المحجوبي أحرضان، لأحد الصحافيين: « هل تعرف لماذا نحن ملكيون في المغرب؟ لأن كل واحد منا ملك في بيته أو قبيلته، أو معمله أو حزبه.. ».
قال عالم الاجتماع المغربي، ذا الأصل الفرنسي « بول باسكون » الذي قضى حياته دارسا لأعماق المكونات السوسيولوجية في المغرب.. قال يوما: « الوشاية رياضة وطنية في المغرب ».
ليس من الصدفة في شيء أن يكون المجال مفتوحا، لأشخاص وُجِدوا بالصدفة، حوالي الملك، يفتقرون لأية شرعية سياسية، ناهيك عن أنهم سُلِخوا من مُحيطهم الاجتماعي، منذ اليفاعة، او لاحقا، ليستغلوا « مواهب » غريزية ، في حلبة التنافس، من أجل نيل مكان تحت « مظلة الملك ».. وكلما ابتعد أحد المتنافسين، أو اقترب، من الحلبة المذكورة، كلما احتد الصراع، حيث يكون البقاء، للأكثر دهاء ومكرا، وبطبيعة الحال، فإن كل ذلك الجهد، يصب في تكريس ذات رقعة نمط الحكم الفردي، الشديدة الضيق، التي تجعل الملك، مصدر كل السلطات و « البرامج ».. في مغرب لا تني مشاكله، على مختلف الواجهات، تتسع وتتعقد. وبالتالي تضيع بوصلة الحلول، في تشابك التعقيدات الاجتماعية والسياسية والتاريخية.
أصدقاء دراسة الملك الخائضون في حروب الوشاية
تُفيد بعض المعطيات، الواردة من ردهات مربع الحكم، في القصر الملكي، أن صراعا محتدما، يجري بين الكوكبة الضيقة، للمساعدين الأقربين، للملك محمد السادس، وتتشكل – أي الكوكبة – من المستشارين الملكيين، ورفاق دراسة الملك، منذ مرحلة اليفاعة، فضلا عن المُلتحقين الجدد، الذين تم إدماجهم منذ تولي محمد السادس الحكم، صيف سنة 1999، والجديد في أمر الصراع المذكور، أن ثمة العديد من المستجدات طرأت، بعد ابتعاد أقرب رفاق الدراسة في المعهد الملكي، من محمد السادس، ونعني به فؤاد علي الهمة، عن تدبير العديد من الملفات. كيف؟ من المعروف أن « الهمة » كان بلا أدنى شك، هو العقل المدبر للعديد من الملفات السياسية والحقوقية والإعلامية.. حينما كان يُباشر مهام تنفيذية مُباشرة، من موقع كاتب الدولة في الداخلية، في حين أنه كان وزير الداخلية الفعلي، سواء في مرحلة « أحمد الميداوي » أو « مصطفى الساهل » أو « شكيب بنموسى »، فالرجل – أي الهمة – تولى مهمة استقطاب العديد من الرؤوس المدبرة، ليسار السبعينيات، التي انخرطت في المجال الحقوقي، من المنظور الذي تتبناه الدولة، وكان أيضا، صاحب المبادرة في العديد من الملفات السياسية، الشديدة الحساسية بالنسبة للدولة، تتجاوز كل الاختصاصات، لتجمع الأمني بالحقوقي بالنقابي بالحزبي بالاعلامي.. إلخ. يقول أحد العارفين بتضاريس العلاقات في البلاط الملكي: « الهمة مسؤول عن كثير من التجاوزات، التي حدثت خلال ثمان سنوات من حكم محمد السادس، فهو مَن كان وراء تشديد القبضة الأمنية في البلاد، عقب تفجيرات 16 ماي 2003، كما أنه كان وراء الملاحقات، التي طالت الصحافة والصحافيين، فضلا عن العديد من الدسائس، التي راح ضحيتها بعض زملاء الدراسة في المعهد الملكي » مضيفا: « ولا يخفى أن كل الملفات التي حملت بصماته، آلت إلى نتائج سلبية ».
هل يُمكن حقا تحميل المسؤولية، كل المسؤولية للرجل وحده؟ « ليس تماما – يقول أحد المُقربين من علي الهمة، مضيفا – فلا يخفى أن كل الملفات التي باشرها الهمة، كانت من ميراث عهد وزير الداخلية السابق إدريس البصري، حيث كان مطلوبا تصفية العديد من التركات السلبية، ومنها الملف الحقوقي، والاعداد القانوني للإنتخابات.. إلخ ».
مهما يكن من أمر فإن هذه الفترة الزمنية القريبة، التي حملت فيها العديد من ملفات الشأن العام، بصمات « ولد الرحامنة » تبدو كما لو كانت بعيدة جدا، فحسب المعطيات، المتوفرة لدينا، فإن احتراق أصابع الهمة، في بعض الملفات الدقيقة، فرضت خيار التخلص منه، بطريقة « لبقة » من مربع الحكم، وهذا الأخير يشغله، كما سبقت الإشارة، ما أصبح يُعرف ب « أصدقاء الملك في مرحلة الدراسة » وبالتالي هل يُمكن الحديث عن حروب صامتة/صاخبة في مربع الحكم المذكور؟ يجيب أحد مصادرنا، اشتغل لفترة طويلة، إلى جانب وزير الداخلية السابق إدريس البصري: « نظرا لأن المجموعة المحيطة بالملك، تتكون من أصدقاء الدراسة، وكانوا يُلازمونه، في المدرسة المولوية، وباقي مختلف مستويات الدراسة الأخرى، فقد أصبح لديهم نوع من الارتباط الخاص مع الملك، وبالتالي التآلف، واكتساب مجموعة من العادات المشتركة » مستطردا: « لكن حينما أصبح رفيق الدراسة السابق، الذي كان وليا للعهد ملكا، تغيرت الوضعية، وما حدث أن مجموعة الدراسة اعتقدت أن الأمر سيبقى على ما كان عليه، لكن العكس هو الذي حصل تماما » مضيفا: « ومن الطبيعي أن يكون هناك نوع من التنافس، بين الفرقاء في المجموعة المحيطة بالملك، فالحكم يخضع بطبيعته، لهذا النوع من الصراع، الذي يصل في بعض الأحيان إلى التآمر فيما بين المُتنافسين.
الصراعات الاقتصادية بين أصدقاء الملك
ما الذي جعل الكاتب الخاص للملك، ومدير أعماله الاقتصادية والمالية، محمد منير الماجيدي، يفعل المستحيل، منذ نحو عام ونصف، للإطاحة بالمدير العام لمجموعة التجاري وفا بنك، خالد الودغيري؟ بالرغم من أن هذا الأخير، قام ليس فقط، بإنجاح عملية إدماج وفا بنك، الذي كان يرأسه سعد الكتاني، في البنك التجاري، المحسوب على الثروة الملكية، بل حقق للتجمع البنكي الجديد، مُستويات أرباح فاقت كل التوقعات؟ تفيد مُعطيات متوفرة، أن خالد الودغيري، لم يكن يمنع نفسه من انتقاد طريقة التدبير التي يعتمدها منير الماجيدي لمجموعة « أونا ».. الأكثر من ذلك، أنه سمح لنفسه بالقول أمام آذان « مُستفيدة » أن العمل الجدي الذي يقوم به هو شخصيا، على رأس مجموعة التجاري وفا بنك، هو الذي يُساهم في إقالة العثرات المالية لمجموعة « أونا » بسبب سوء تدبير الكاتب الخاص للملك، ولم يكن صدفة أن يقترب « فؤاد علي الهمة » أكثر من « متاعب » خالد الودغيري، بل ويمنحه اهتماما خاصا، ولتُربط عُرى « صداقة » بين الطرفين، وبطبيعة الحال فإن « منير الماجيدي » لم يكن لتفوته مثل هذه التفاصيل، حيث لا يخفى أنه في مجالات نفوذ اقتصادي ومالي، من هذه المستويات الكبرى، يتوفر كل طرف مُقرب من مصدر القرار، على « أصحاب الحسنات » الذين يُغذون الحقائق والإشاعات، وبالتالي المُساهمة في استعار الحرب بين أقرب مُساعدي الملك في مربع القرار.
والذي حصل، أن المدير العام السابق لبنك التجاري وفا بنك خالد الودغيري، وُضِع في أُتون فُرن ملتهب، لتطاحنات الماجيدي والهمة، لذا لم يرتح بال الكاتب الخاص للملك، حتى حصل على « استقالة » الودغيري، وهو الإجراء الغريب، الذي هزَّ حينها عالم المال والأعمال، باعتبار قرار الاستغناء عن الودغيري، كان « حماقة » يصعب استيعابها، غير أن العارفين بمؤثثات هذه الصراعات الخفية في دهاليز البلاط، تساءلوا بسخرية: و متى كانت صراعات السلطة تخضع لمنطق العقل؟ وفهموا أن « منير الماجيدي » كان قد ربح جولة ضد غريمه « الهمة » بعدما كان هذا الأخير على وشك استثمار تناقضات مجاله الخاص، ونعني به شؤون إدارته لمجالات المال والأعمال الملكية.
غير أن متاعب الإطار البنكي الناجح « خالد الودغيري » لم تكن لتنتهي عند هذا الحد، فبعدما، ذهب في عطلة « نقاهة » إلى العاصمة الفرنسية، جاءه عرض مُغر، لتسيير أحد أكبر الأبناك في العربية السعودية، بيد أنه لم يكد يستقر في موقعه الرفيع ذاك، حتى « طلعت » من قبعة تصفية الحسابات، قضية الارتشاء العقارية، الموضوعة أمام أنظار القضاء، بين رجل الأعمال السوسي عبد الكريم بوفتاس، ونظيره الصويري ميلود الشعبي، حيث سيتم إدراج اسم خالد الودغيري، ضمن المطلوب الاستماع إليهم، بتهمة « تسهيل » عملية بيع عقار بين الطرفين، لقاء رشوة.
ويرى البعض أن تضمين اسم الودغيري، في هذه القضية، ليس سوى مسلسل جديد لتصفية الحسابات، بغاية الانتقام من الرجل.
دسائس الاستخبارات والاعلام بين الهمة وياسين المنصوري
لم يفهم الكثيرون، الطريقة المُفاجِئة، التي تم بها عزل محمد الخبشي، مدير وكالة المغرب العربي للأنباء، وهو ليس سوى صهر مدير الاستخبارات العسكرية « لادجيد » محمد ياسين المنصوري، حيث إن هذا الأخير، كان قد حرص عند مغادرته ل « لاماب » على وضع رجل ثقته وقريبه، الخبشي، مكانه، حيث لا يخفى « التكامل » الحاصل بين مجال الاستخبار الخارجي، ل « لادجيد » و المعلومة « الاعلامية » للوكالة المذكورة. فما الذي حدث حتى تمت إقالة الخبشي، الذي كان حينها خارج المغرب، وبالتحديد في العاصمة الغانية « كوناكري » حيث حضر احتفالات البلد الافريقي المذكور، بمناسبة تنصيب رئيسه الجديد.
المعلومات التي نُشِرت في الموضوع أفادت أن « محمد الخبشي » لم يكن قد اختير رسميا لحضور المناسبة إياها، بل وزير الدولة بدون حقيبة « محمد اليازغي ».. فما الذي جعل « الخبشي » يذهب إلى « كوناكري » في مُهمة لم تُسند له أصلا؟ يُجيب أحد مصادرنا: « ما حصل على الأرجح، هو أن الخبشي نسَّق مع صهره ياسين المنصوري، ولم ير هذا الأخير ضيرا، بل بالأحرى نفعا، في أن يذهب قريبه، إلى كوناكري، لاكتساب علاقات جيدة مع طاقم الرئيس الغاني الجديد في مجالات حيوية ». إذا كان ذلك صحيحا، فإن المعطاة إياها تحولت بسرعة البرق، بعد اشتغال الهواتف، إلى غضب على أعلى مستويات القرار، في الدولة، أي القصر، ولينزل بالتالي قرار إعفاء صهر مدير لادجيد، ووضع علي بوزردة، أحد أصدقاء « علي الهمة » مكانه. ليرى الكثيرون في العملية برمتها، مُناورة أخرى ناجحة، لولد الرحامنة، في مربع مركز القرار، حماية لنفوذ قال الكثيرون أنه فقده، بعدما استثمر مُنافسوه في مربع القرار المذكور، ابتعاده عن المسؤولية المباشرة، من خلال منصب كاتب الدولة سابقا في الداخلية، وانشغاله بمشروع حزب « الأصالة والمعاصرة ».. وبالتالي، حسب رأي القائلين بهذا الرأي، فإن تعيين « بوزردة » المدير السابق لتلفزة دار لبريهي، يُعتبر مكسبا جديدا للهمة،أعاده بقوة إلى حلبة التنافس، في مربع القرار، وبذلك يرد « الدَّيْن » ل « ولد الفقيه المنصوري » الذي كان قد أخذ من تحت أنفه، مهمة إشرافية رفيعة، تمثلت في رئاسة لجنة الأمن، التي تجمع كل التخصصات الأمنية السرية والعلنية والعسكرية، لتدبير ملفات القضايا الأمنية، للبلاد. وهي المهمة التي كان يطمح إليها « ولد الرحامنة » سيما بعد تسلمه مكان إدريس البصري، كمهندس للخيارات الأمنية، عقب تفجيرات 16 ماي 2003.
كيف أطاحت وشاية في قضية زواج برشدي الشرايبي؟
ما زال المهتمون بدقائق شؤون الحكم في بلادنا، يتذكرون « المحنة » الطريفة التي عاشها مدير الديوان الملكي « رشدي الشرايبي » في بحر سنة 2003، فقد تمت تنحية الرجل في صمت، ليقبع في بيته مدة طويلة بدون مهمة، بعدما كان الكثيرون يعتبرونه مهندس العديد من الترتيبات الخاصة بجدول الأعمال الملكي، ونسبوا له حظوة خاصة، لدى الملك، وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك ليستمر في ظل الصراعات، التي تعتمل في مربع الحكم بين زملاء الملك، في مرحلة الدراسة، ممن أصبحوا في عِداد أقرب مساعديه، في أكثر من ملف، ويُشير الكثيرون، إلى شخص « الهمة » في صنع « المقلب » الذي أطاح بمدير ديوان الملك، أي رشدي الشرايبي. فما هي تفاصيل هذه القضية؟
امتدت يد مُتصيدة لأخطاء الخصوم « الزملاء » في مربع الحكم، إلى وثيقة إدارية بسيطة، تمثلت في شهادة عزوبة مُزورة، لكن اسم صاحبها من الأهمية، التي لا تقل عن مدير الديوان الملكي، أي محمد رشدي الشرايبي، وثمة مَن أكد، أن اليد كانت لكاتب الدولة في الداخلية « فؤاد علي الهمة ».. الذي سعى بوسائله السلطوية، إلى الحصول على الوثيقة التافهة شكلا، والمهمة جدا معنى، ليقول لصاحب الأمر الفصل، أي الملك: انظر إن مدير ديوانك، زور وثيقة زواج ليتخذ زوجة ثانية، وبطبيعة الحال أتت الوشاية أكلها، سيما أن الرجل الموشى به، كان عضوا في لجنة النظر في مشروع مدونة إدماج المرأة في التنمية، الذي كان يُبحث له عن سبل خروجه إلى حيز التنفيذ، باعتباره أهم إنجاز للملك محمد السادس، خلال السنوات الأولى من حكمه، وبطبيعة الحال، تم تجريد الرجل من مهامه، ليظل مدة طويلة، قاربت السنتين، قابعا في بيته، بعدما كان واحدا من كبار موظفي دار المخزن، وقد تطلب منه أمر العودة إلى البلاط، إتيان تصرف مخزني عتيق، تمثل في حلق شعر رأسه حتى الصلع، وتدبر أمر بلوغ مكان حفل حضره الملك محمد السادس، في مدينة تطوان، ليحصل على ما يسمى في دار المخزن ب « الشفاعة » وبالفعل شُفع للرجل ليعود إلى مهمته، لكن بدون تسمية « مدير الديوان » التي كانت له، وحسب مُعطيات مُتوفرة، فإن رشدي الشرايبي بصدد استعادة موقع قوته، كما كان في السابق، بدليل أن بعض الترتيبات الهامة، الخارجة من مربع الحكم، ومن بينها إبعاد غريمه اللذود « الهمة » تحمل أيضا توقيعه.
حسن أوريد من الناطق إلى الصامت باسم القصر
عيُن حسن أوريد، شهورا بعد تولي محمد السادس الحكم، ناطقا رسميا باسم القصر الملكي، وذلك لاعتبارات، تتصل بطبيعة تكوينه، الأكاديمي الفكري، مما منحه صفة المثقف الوحيد، ضمن كوكبة زملاء الملك على مقاعد الدراسة منذ الصغر، وهو ما مكنه من تولي منصب، يُعتبر الأول في تاريخ دار المخزن، إي تدبيج وقراءة البلاغات التي تصدر باسم القصر الملكي، في المناسبات والمستجدات التي تتطلب، حسب الظروف « توضيحا » من الملك، غير أن الوظيفة المذكورة، أُفرغت من محتواها، باعتبار طابعها الرسمي المخزني، الذي اتخذه ظهور الناطق الرسمي، مما لم يخرج في كثير من الأحيان عن الدور التقليدي، الذي تؤديه وسائل الإعلام الرسمية (لاماب مثلا) الأكثر من ذلك أنه حتى هذا الدور « الجامد » كان قد بدأ يختفي شيئا فشيئا، ليتحول الرجل – أي حسن أوريد – من ناطق إلى صامت باسم القصر، كما علق أحد الزملاء الصحافيين، وسارت بذكر اللقب الساخر، الكتابات الصحفية، التي تناولت موضوع صاحب وظيفة « لسان القصر » واعتكف أوريد في صومعة « فكرية ثقافية تمثلت في إدارة مركز طارق ابن زياد، الذي « لاذ » به منذ رجوعه من الولايات المتحدة الأمريكية، أواخر حكم الحسن الثاني، حيث كان يقوم بمهمة دبلوماسية في سفارة المغرب بواشنطن، بعد خلاف غامض، مع السفير السابق للمغرب بأمريكا الشمالية محمد بنعيسى. فما الذي حدث؟
يقول أحد المقربين من المعني: « لقد كان حسن أوريد، أذكى عنصر ضمن كوكبة الدراسة مع محمد السادس، منذ مرحلة الطفولة، وصاحب أفضل معدلات النتائج الدراسية في كل مواد الدراسة، مما أكسبه صفات الجد والتحصيل، لدرجة أن كل زملائه، كانوا يستنجدون به، في إعداد وتحضير الامتحانات » مضيفا: « غير أنه عقب وفاة الحسن الثاني، ظل أوريد محتفظا بمشاعر التعالي الفكري والعلمي، على زملاء الدراسة، وهو ما لم يكن بالوضع المريح للمتنافسين، في بلاط الملك محمد السادس، سيما فؤاد علي الهمة، وقد فعل هذا الأخير الكثير ليجرد غريمه « أوريد » من المنصب الرسمي الرفيع، الذي تبوأه عن جدارة واستحقاق » مستطردا: « وبطبيعة الحال نجحت الوشايات التي أحاطت بالرجل، سيما في موضوع إدارة ملف الأمازيغية، من منظور ملكي، وبالتالي إنتاج بعض القرارات، منها إخراج فكرة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، إلى حيز الوجود ».
ولأن من طبيعة الصراعات، داخل مربع الحكم في بلاطات الملوك والسلاطين، أنها لا تتوقف عند حد منظور، فقد تم تجريد الرجل – أي أوريد دائما – من الإشراف على الملفات الكبرى، التي كان يضطلع بها، ومنها بطبيعة الحال صفة « الناطق الرسمي باسم القصر » ليتم تعيينه مرؤوسا لكاتب الدولة في الداخلية السابق في الداخلية، أي واليا على جهة مكناس تافيلالت. وحسب معطيات، استقيناها من مصادر بالجهة المذكورة، فإن الوالي أوريد، يوجد في المنصب المحلي المعني، في وضع أقرب من البروتوكولي إلى الفعلي، مما أكد أن مساعي الإطاحة به في مربع الحكم، لم تتوقف عند حد معين. يقول المصدر المُقرب من أوريد: « كان من مضاعفات الوضع العملي المهزوز، الذي يعيشه الرجل، أنه أصيب بوعكات صحية اكثر من مرة، جراء عوامل نفسية، اقتضت إدخاله المستشفى العسكري بالرباط » مضيفا: « لقد التقطت أذن ساعية بالنميمة، وسط أبهاء القصر الملكي، ما تفوه به أوريد في لحظة حميمية، عن كونه مُدبج أغلب الخطابات الملكية، سيما منها التي اتسمت بالأهمية ». وبطبيعة الحال كانت تلك خاتمة العنقود الذي يصل « حسن أوريد » ب « دالية » مربع الحكم.
تسريب قضية استحواذ الكاتب الخاص للملك على أرض وقفية إلى الصحافة
اندلعت منذ أزيد من سنة، قضية استحواذ الكاتب الخاص للملك، محمد منير الماجيدي – على أرض تابعة للوقف، وذلك من خلال شرائها، بتواطؤ مع وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، بثمن يقل بعدة أضعاف عن الحقيقي، وبينما كانت العديد من الجرائد تجلد الرجل – أي الماجيدي – قليلون جدا هم الذين تساءلوا عن الأبعاد الثاوية للقضية في أبهاء القصر الملكي، وبالتحديد في وسط مجموعة المساعدين الأقربين للملك محمد السادس، فما الذي حدث، ففجر على الماجيدي، حملة إعلامية وسياسية – وصل صيتها حينها إلى قبة البرلمان، من خلال أسئلة شفوية، طرحها فريق حزب العدالة والتنمية، عن معايير تفويت أراضي الوقف – ليعمد الملك محمد السادس (بطبيعة الحال، بعد معرفته بالحيثيات الكامنة، وراء الحملة على كاتبه الخاص) إلى إرسال الماجيدي، في عطلة استثنائية إلى إحدى جزر الباهاماس الحالمة؟
أكد مصدر مقرب من العلاقات التي تربط الشلة المُحيطة بالملك، أن الصراع المحتدم، الذي كان قد اندلع بين الكاتب الخاص للملك، وفؤاد علي الهمة، دفع هذا الأخير إلى السعي للحصول على وثيقة التمليك للأرض، المذكورة، باسم زوجة الماجيدي، من المحافظة العقارية، بفضل علاقاته، ونفوذه الخاصين، وبالتالي تسريبها لوسائل الإعلام، لتُثار الضجة المعلومة، حول ترامي الكاتب الخاص للملك على المِلك العمومي.
وهو المعطى الذي يُفيد، طبيعة العلاقات التنافسية، التي تصل حد استعمال كل الوسائل المتوفرة، للإساءة إلى الخصوم ، ويبدو من خلال بقاء كاتب الملك في منصبه، أن الملك محمد السادس، يلجأ إلى التقنية المخزنية المعروفة، في مثل هذه المواقف، وتتمثل في إدارة الخلافات بهدوء، يحفظ لوظائف أقرب مُساعديه استمرارها، وبطبيعة الحال، فإن هذه الوصفة التدبيرية، تُذكي الخلافات أكثر فأكثر، وبالتالي تجعل الصراعات مفتوحة، على كل الجبهات، الصغيرة والكبيرة، وفي هذا الإطار، يذهب البعض إلى أن من أسباب « استقالة » الهمة من منصب كاتب الدولة في الداخلية، نجاح خصومه، المُتضررين من علاقته النوعية بالملك، إلى التحالف ضده، وبالتالي إبعاده عن مجال التأثير المُباشر، في أكثر من ملف، سيما ما يرتبط بعلاقة الملك بأقرب مُساعديه
حاشية الملك: « العاقبة للصابرين
« مَن يعرف جيدا دار المخزن، يعلم أنه ليس هناك تجزيئا للسلطة، ذلك لأن طبيعة العلاقات في الدار المذكورة، مبنية على قانون مخزني هو البيعة، التي يحتفظ بها الملك كاملة » هكذا يقول أحد العارفين بمجال اشتغال آليات الحكم، وطبيعة العلاقات داخل مربعه، مضيفا في نفس السياق: « وبالتالي، فإنه ليس هناك رجل ثان للسلطة في المغرب، غير أنه قد يكون هناك في بعض المراحل، أحد رجال المخزن قويا، ثم يُصبح لا شيء بشكل مُفاجىء ».
الإشارة واضحة إلى نموذج وزير الداخلية القوي سابقا، إدريس البصري، خلال فترة طويلة من حكم الملك الحسن الثاني (1961 – 1999) وبالتالي كان طبيعيا، أن يتصارع أكثر من طرف، ضمن مربع الحكم الضيق، عقب وفاة الحسن الثاني، والتخلي عن خدمات البصري، على موقع الرجل القوي، في النظام المخزني، بعد الملك، وبدا في السنوات العشر الأخيرة، التي أمضاها محمد السادس في الحكم، أنه من الصعب جدا، بروز رجل قوي في النظام، من عيار البصري، ذلك ربما – حسب بعض التحليلات – لتجنب عدم تكرار التجربة بعينها، في استفراد أحد خدام المخزن، المُحيطين بالملك محمد السادس، بمناطق النفوذ المُؤثرة في النظام، على غرار ما كانه إدريس البصري، على مدى فترة طويلة.
بالمقابل فإن هذا الحذر، إذا كان صحيحا، فإنه لا يمنع من تبلور قوى نفوذ، في أعلى هرم السلطة، باعتبار طبيعة ونوع الحكم في المغرب، الذي يجعل كل السلطات التنفيذية والتشريعية، مُتجمعة لدى القصر. ومن هذا المُنطلق يذهب البعض، إلى أن مركز النفوذ يذهب شيئا فشيئا، إلى المدير العام للدراسات والمُستندات المعروفة، اختصارا ب « لادجيد » السيد محمد ياسين المنصوري، فهذا الأخير، حسب وجهة النظر هذه يتوفر على « خصلة » الهدوء والصبر، وترك الأمور تنضج على مهل. بمعنى أنه لم يسع إلى الخوض في الصراعات الضيقة، للمحيطين بالملك، والتركيز على الأداء المهني، وذلك من خلال الإعتماد على المعلومة الموثقة والمسنودة، لتقديم خدمة أفضل، وفي هذا المجال لا يخفى، أمر التدخلات الكثيفة، لياسين المنصوري، بما يتجاوز مجال عمل جهاز « لادجيد » المنذور منذ تأسيسه، للاستخبارات الخارجية، ليطال المُعطيات المرتبطة بحقل الإرهاب، والميدان الإقتصادي والمجال الإعلامي. يقول أحد العارفين بتحولات هذا الأداء الجديد ل « لادجيد » أن عاملين محسوبين على الجهاز الاستخباراتي المذكور، أصبحوا أكثر حضورا في مجال تجميع المعلومات والمعطيات، بل وصنع البعض منها، في مجالات الاقتصاد والأمن والإعلام.. ولا يخفى أن نتائج التقارير النهائية لهذه المهام، توضع على مكتب الملك محمد السادس. وبالتالي ما يفسر بعض القرارات التي اتُْخذت، في أكثر من ملف اقتصادي وإعلامي. فهل يُمكن القول أن محمد ياسين المنصوري » ربح رهان الصراع، داخل مربع الحكم الضيق؟
على عكس هذا الرأي، يقول زميل صحافي مُخضرم، اشتغل لبضع سنوات إلى جانب أحد أقرب مُساعدي الملك محمد السادس: « ياسين المنصوري ليس بالرجل الذي لم يرتكب هفوات وأخطاء لا تُغتفر، فإدارته الاستخباراتية، في أهم دول أوروبا الغربية، كانت عبارة عن فضيحة، سارت بذكرها الركبان » مضيفا: « دون أن ننسى التداعيات الإعلامية، والسياسية، للصورة التي التُقِطت له هو ووزير الخارجية الفاسي الفهري، مع وزيرة خارجية إسرائيل منذ بضعة أشهر ».
وزارة الداخلية: منجم طاقات الوشاية
يُسِرُّ بعض اللذين عبروا ردهات وزارة الداخلية، من مكانها العالي، جغرافيا، بالعاصمة، فهي تطل على نهر أبي رقراق، وترنو إلى مبنى القصر الملكي في الرباط، من موقع انحداري.. (يُسِرُّونَ) أنه لم يكن عبثا، أن يجتاز، كل الذين يُشكلون المحيط المباشر للملك محمد السادس، وزارة الداخلية في مهام متعددة، فالهمة والمنصوري ورشدي الشرايبي وأوريد… كلهم مروا من هناك، لفترات طويلة أو قصيرة، أيام « عرابها » ادريس البصري، وبطبيعة الحال اكتسبوا خبرات في « المنجم الحقيقي » للمغرب السياسي والسلطوي، ففي وزارة الداخلية يتم دائما إعداد الملفات، الكبرى والصغرى، لتجد طريقها إلى التنفيذ.
وما دمنا في مجال الوشاية والوشاة، فإنه في ردهات الوزارة المذكورة، تجري الصفة المذكورة، مجرى الدم في الشرايين. كيف ذلك؟
« هناك في أبهاء وزارة الداخلية – يقول أحد الذين اشتغلوا في بعض مصالحها، لفترة طويلة – تُصنع التحالفات والمصالح، والمسارات الناجحة والفاشلة، على السواء، في التراتبية السلطوية بالمغرب، وبطبيعة الحال، يوجد هناك دائما مَن يعرف أكثر من غيره، كيف ينسب لنفسه منجزات الآخرين، منهم مثلا ذاك الذي استطاع أن يتسنم مسؤولية كبيرة على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني، بفضل حسن استعماله لتقنية الإيقاع بخصومه، وهو ما تسنى له بعد سنوات طويلة من الدس لزملائه، رؤساء بعض المصالح الأساسية في وزارة الداخلية نظير مديرية الشؤون العامة ».
« إنها مدرسة الدس بامتياز » يستخلص نفس المصدر، مضيفا: « وهي التي تُمد كل مؤسسات الدولة تقريبا بأطر التسيير، ويجب أن نذكر هنا مثلا، حقل الإعلام العمومي، الذي شهد أكبر عملية اجتياح له من طرف أطر الداخلية أيام إدريس البصري » مستطردا: « ويجب ألا نعتقد أن ذلك الاجتياح انتهى بمجرد ذهاب البصري، ذلك أن نفس النهج ما زال مُستمرا، وإلا ماذا يُمكن ان نسمي انقال ياسين المنصوري، من الإشراف على مديرية الشؤون العامة « دي آ جي » إلى رئاسة وكالة المغرب العربي للأنباء، قبل أن يرسو في مديرية الوثائق والمستندات « لا دجيد »؟ » مسترسلا: « وكيف يُمكن أن نشرح أيضا انتقال كاتب الدولة السابق، في الداخلية، فؤاد علي الهمة، من منصبه هذا، إلى تأسيس جمعية سياسية فحزب سياسي، باسم الأصالة والمعاصرة؟ كل هذا وغيره يبين الأهمية التي ما زالت تستأثر بها وزارة الداخلية، في تسيير الشأن العام بالمغرب عبر مختلف مجالاته ».
نماذج من صراعات الكواليس في محيط الحسن الثاني
ذكر مستشار الحسن الثاني « عبد الهادي بوطالب » في كتابه « نصف قرن من السياسة » بعض المعطيات عن طبيعة التنافس الذي كان دائرا في بلاط الملك السابق، وحكى عن مشاكل وقعت له شخصيا، بسبب « سعي » وزير الدولة القوي في الداخلية « ادريس البصري ».. وهو ما أسفر عن مرحلة جفاف من طرف الحسن الثاني اتجاه عبد الهادي بوطالب، بدأ كل شيء مع خبر نُشِر في جريدة الشرق الأوسط، في أحد أيام بداية الثمانينيات مُؤداه أن « بوطالب » سيُعين وزيرا أول، ونظرا للعلاقات الوثيقة التي كانت للرجل – أي بوطالب – بالقائمين على الجريدة السعودية المذكورة، فقد سعى إدريس البصري بنميم، ليُؤكد للحسن الثاني أن « بوطالب » هو الذي سرب الخبر ل « الشرق الأوسط » ونتج عن ذلك أن غضب الحسن الثاني من مستشاره، وعدل عن تعيينه وزيرا أول (هذا فيما إذا كان فعلا الخبر الذي نشرته الشرق الأوسط صحيحا).
تشي هذه الواقعة بطبيعة العلاقات المُعقدة/الصراعية، التي كانت تجمع بين المُحيطين بالحسن الثاني، من رجال حاشيته، ومستشاريه، ووزراء حكوماته المُتعاقبة. « حيث كان يكفي – كما يقول أحد الذين كانوا يغشون مجالس الحسن الثاني – أن يهمس أحد رجال ثقته، وكانوا قلائل، بنميمة مُعينة، في حق أحدهم، ليتم عزله من منصبه، أو تجريده من كل الامتيازات المادية والاجتماعية، التي جمعها لسنوات، بفضل قربه من الملك » مضيفا: « لقد حدث يوما أن أحمد العلوي، وزير الدولة بدون حقيبة، على مدى حكومات مغرب ما بعد الاستقلال، طلب رؤية الحسن الثاني، فقيل له أن مزاجه متعكر، ولا يُريد استقبال أحد، غير أن الرجل ألح أشد الإلحاح، بدعوى أن الأمر، في غاية الأهمية، ولا بد من تبليغه للملك، فأذن هذا الأخير له، حيث كان في مجلس خاص، يتداول مع بعض المقربين منه، في أحد الأمور التي عكرت مزاجه، فاقترب أحمد العلوي من الحسن الثاني، حتى حاذى أذنه وهمس له بشيء، وحدث أمام دهشة الحاضرين، أن الملك انفجر ضاحكا، مباشرة بعد ذلك، وحينما سُئل أحمد العلوي من بعض الفضوليين، من رجال البلاط، أجابهم: قلت له (الباراكا فراسك آمولاي أمين الشواذ في الرباط مات).
هذه الواقعة الطريفة تبين إلى أي حد كان الملك الراحل، يعير الكثير من الاهتمام للأشياء التي كانت تُنقل إليه فما لأذن، فضلا عن تقنية التقارير التي كانت شائعة بين أقرب مُساعديه، ورجال حاشيته، للإيقاع ببعضهم البعض لديه – أي الملك – وهنا يجب ذكر واقعة من نفس عيار السابقة، حدثت بين اثنين من كبار رجال الدولة، هما الجنرالين، حسني ابن سليمان وحميدو لعنيكَري، يقول مصدر كان قريبا من الواقعة: » كان الجنرال لعنيكَري في مرحلة طويلة من حياته المهنية، مسؤولا عن حرس الشيخ زايد بن سلطان، في الإمارات العربية المتحدة، وبالتالي كان يضطلع بتنظيم عمليات اختيار أفواج رجال الجيش والدرك، الذين كانوا يذهبون لأداء مهام أمنية وعسكرية، لا تخرج عن حراسة قصور الأمراء، وكبار القوم في ذلك البلد الخليجي البترولي الثري، غير أن لعنيكَري، عمل على التلاعب في المُخصصات المالية الضخمة، لرجال الدرك والجنود، وهو ما دفع حسني بنسليمان الى إعداد تقرير ضاف في الموضوع، قدمه للحسن الثاني » ويستطرد نفس المصدر: » وعندما انتهت مهمة لعنيكَري لدى شيوخ الإمارات، وتأهب للعودة إلى المغرب بشكل نهائي، كان الجنرال حسني بن سليمان يُعد العدة لالتهامه، ورد بعض الدين الذي كان لديه، بصدد ما لحقه منه، من أذى من نفس العيار، في بلاط الحسن الثاني، غير أن لعنيكَري، فطن للمقلب الذي كان يُعد له، لذا استنجد بمخدوميه، من علية القوم الإماراتيين، فسعى هؤلاء إلى تخليصه من الورطة، غير أنه ظل لفترة طويلة، بعد عودته، إلى المغرب، مُجمدا وظيفيا، حيث كان يضطلع فقط، باستقبال بعض ضيوف المغرب من مستويات دنيا، من أصدقاء الأمراء والأميرات، وبعض شخصيات الدولة، في مطار الدار البيضاء، حيث كان يربض جالسا الساعات الطوال، في قاعة الانتظار ».
الوشاية والوُشاة في بلاط السلطان
« ما أشبه اليوم بالبارحة ».. هذا ما يسع المُطلع على بعض تفاصيل صحبة الملوك والسلاطين قديما، قوله، عما يقع في نفس المجال، في الوقت الراهن، في هذا الإطار، ثمة كتابات، ضافية في الوضوع، حديثة الصدور للباحث المغربي « عز الدين العلام »، منها كتاب « الآداب السلطانية » الصادر سنة 2006 عن سلسلة « عالم المعرفة » الكويتية، الذي تضمن فصلا بعنوان « في صحبة السلطان » اقتبسنا منه فقرة (بعد استئذان المُؤلف) تلتقي مع ملفنا في موضوع « الوشاية في بلاط الملك
***
« إذا كان بعض الفقهاء لم يبارحوا التساؤل عن جواز أو عدم جواز صحبة السلاطين، فإن الأدباء السلطانيين « العاملين أو الراغبين في العمل مع السلطان، يُفكرون خاصة في « طرق » سلامة لهذا النوع من الصحبة. وإذا كانوا يُجمعون على جواز العمل مع السلطان، بل ضرورة « صحبته » وعللوها ب « واجب » النصيحة » وإصلاح ما يُمكن إصلاحه من فساد، فإنهم يُحذرون صاحبهم داخل البلاط السلطاني، من كل الاحتمالات المُمكنة: فهو قد ينجح في الامتحان السلطاني، وقد يسقط، وما بين النجاح والسقوط، عليه أولا وقبل كل شيء، أن يُفكر في الافلات بجلده… ولربما بسبب من طبيعة وضعية « صاحب السلطان » هذه يعيش المؤلف السياسي السلطاني « مفارقة » عجيبة ويُعبر عنها، فهو في الآن نفسه الذي يتحدث فيه عن « مخاطر » صحبة السلطان نراه يلهث ويلهث لولوج بلاطه.
تبدو حكاية « الغواص – العالم » مع الأسد – الملك » أكثر دلالة في هذا المجال، إذ تتحدث عن « مضرة التبرع بالنصائح » و »ضرورة التلطف في عرض النصائح على الملوك » و « حاجة أصحاب المُلك إلى بعض المُقاربة واللطف، في إيراد النصيحة ». كما تُحدر حكاية « كليلة ودمنة » من المصير المجهول، الذي قد يكون جزاء، لصحبة شخص، مثله مثل « الزمان » و « البحر »، لا مأمن ولا ثقة فيه، على حد قول « الماوردي » الذي يستشهد بحكماء الهند، الذين شبهوا « السلطان في قلة وفائه للأصحاب وسخاء نفسه عنهم، بالبغي المُكتسب، كلما ذهب واحد جاء آخر ».
من أجل تليين المفارقة، بين الخوف من السلطان والرغبة فيه، بين التحذير من صحبته والدعوة للعمل معه، تخصص الأدبيات السياسية السلطانية، المشرقية منها والمغربية، صفحات كثيرة، تسعى من خلالها إلى تقنين السلوك الناجح، في صحبة الملوك والسلاطين، وطرح ما يجب أن يكون عليه « الصاحب » في كلامه وصمته، ودخوله المجلس السلطاني، وخروجه منه، وحركاته وانضباط جسده، وامتثاله وتغافله، وحذره من سعي زملائه داخل الحاشية السلطانية…
هكذا نجد مثلا ابن الأزرق، وهو خديم السلاطين، يدافع عن السلطان والعمل معه، سواء تمثل ذلك في نصحه له، أو تولي خطة شرعية أو وظيفة سلطانية، كما يبدو واضحا في عقده لفصول حول « المشورة » و « النصيحة » و « البطانة » و « الخاصة »… بل إن كتاب « البدائع » برمته يدخل في هذا الإطار. ومع ذلك، وهنا تكمن « المُفارقة » (ظاهريا على الأقل)، نجده يُخصص فصلا بكامله، لموضوع « سياسة » سائر الخواص والبطانة في صحبة السلطان وخدمته » لا يتحدث فيه إلا عن « الترهيب من مخالطته » و « التحذير من صحبته ».
يُشير ابن الزرق باجتناب « مخالطة » السلطان حفاظا على « السلامة والنجاة » ولأن التجربة أبانت أن من سعوا لإصلاحه فسدوا به، كما ينهى عن صحبته، لنذرة إخلاصه، وتواتر تقلباته، مشبها إياه بالبحر والصبي. ومع كل هذه المحاذير، يجيز المؤلف الدخول لمجلس السلطان، والعمل معه لأسباب متعددة، منها أن يكون العمل معه، أو حتى الحضور لمجلسه على وجه « الالتزام » وخوفا على النفس في حال الامتناع، ومنها أن يكون العمل معه، أو الحضور لمجلسه، من أجل « استجلاب مصلحة ».
من أجل حل هذه « المُعادلة » وتليين المُفارقة، بين الخوف من السلطان والرغبة فيه، يُخصص ابن الأزرق، والأدب السلطاني عامة، صفحات كثيرة يسعى من خلالها – وقد رأى « صحبة السلطان » لا مفر منها – إلى تقنين السلوك الناجح في صحبة الملوك والسلاطين، هكذا يقول ابن الأزرق « وإذا تقرر معذور هذا الأمر عاجلا، وموعوده ما هو أدهى منه آجلا، فلصحبة السلطان على كثرة غِررها ( أي مساوئها – المحرر-) وتقصير نفعها عن ضررها آداب كثيرة ». وهي نوعان: آداب يجب الالتزام بها، وأخرى يجب تركها. أما الأولى، فخمسة أنواع وتشمل: « التلطف له عند الخطاب » و « الإصغاء لكلامه » و « استشعار الصبر في خدمته » و « مصاحبته بالهيبة والوقار » و « الرضا بجرايته » أما ما يجب تركه في مُصاحبته فيتمثل في « مناداته باسمه ورفع الصوت بحضرته، وابتداء الحديث بمجلسه، إذا كان هو المتكلم، والضحك من حديثه وإظهار التعجب منه (…) ورفع الرأس إلى حرمه… والانقباض منه والتهالك عليه (…) والمبادرة بالجواب إذا سأل غيره… والإكثار من غشيانه أو الصعود عنده… (وطبعا دون أن ننسى أن هناك مزيدا من النصائح المثيلة عند الحديث عن « الحاشية السلطانية » ومراتبها، خاصة ما يتعلق بموضوع « السعاية » أو الوشاية لدى السلطان، التي يذهب ضحيتها العديد من خدام السلاطين، والتي شكلت على الدوام العدو اللذود لكل موظف سلطاني).
ومن جهته، يُصور أبو بكر الطرطوشي، الوضعية غير المُريحة لصاحب السلطان، حين يصفه على لسان الحكماء « كراكب الأسد يخافه الناس وهو لمركبه أخوف » ولتجاوز هذه الازدواجية المُدوخة، التي تجمع في الآن نفسه، بين ممارسة السلطة، والخضوع لها، ينصح الكاتب بالابتعاد عن نار السلطة، متى أمكن ذلك، وفي حال تعذر ذلك، يبقى لزاما على خديم السلطان، استحضار البديهة والتبصر ودوام الطاعة، والبذل درءا لكل غضب سلطاني مفاجىء.
يجمع البلاط السلطاني بين عشرات الأعوان والجلساء المجندين لخدمة السلطان. وكل واحد منهم، يعتقد في أهميته، ويتطلع إلى « القرب » من حضرته، فيحتدم الصراع بين « رجال البلاط »: هذا يسعى للإيقاع بوزير، وذلك « وال يشي » بقاض… وقد يعي السلطان هذه « الصراعات » ويُحافظ عليها، إن لم يغذها أحيانا بشكل يُحافظ على قوته، ضاربا هذا بذاك.
في هذا السياق، يقدم لنا مسار حياة، كل من ابن رضوان صاحب « الشهب اللامعة » وخديم المرينيين، وابن الخطيب صاحب « الإشارة إلى آداب الوزارة » وخديم النصريين بغرناطة، صورتين مُتعارضتين لما يُمكن أن ينجم عن « صحبة السلاطين ».
قضى ابن رضوان اثنين وأربعين سنة، في خدمة المرينيين، واشتغل مع ثمانية سلاطين، وهي مدة كافية جدا، لإصابته ب « مكروه سلطاني » أو الإيقاع به في دسيسة من دسائس الحاشية السلطانية، لكنه ظل على الدوام حيا يُرزق، والسر في ذلك، كما يقول الباحث إحسان عباس، كامن في طبيعة شخصيته، وقد كان على ما استقر في نفسه من طموح، يعرف متى يقف بطموحه عند حد، لا ينفذ إليه منه الأذى. ويرى سامي النشار أن ابن رضوان وصل إلى ما يصبو إليه لكونه « رجل دين وخلق، لم يذكر أحد من المُؤرخين أنه اشترك في مؤامرة، أو سعي لأحد بوشاية، إنه من الأفراد القلائل، في هذا العهد المضطرب القاتم المليء بالدسائس، الذي توصل إلى مكانته الكبرى عن جدارة واستحقاق ».
مقابل ذلك، نجد ابن الخطيب الذي تدرج من « الكتابة » إلى « الوزارة » مع ما لا يقل عن ثلاثة سلاطين، والذي اختبر « صحبة السلاطين » في أحلك أيامها، يُعاني الأمَرَّيْنِ من سعاية حساده ضده، وتعرَض لأكثر من « نكبة ». بل اتُْهم بالخروج عن الدين، واستغلال النفوذ، والاستبداد بالأمر دون السلطان… إلخ. ليس زائدا إذن، أن ينبه ابن الخطيب « الوزير » ويقول: « واعلم أنه قلما يخلو من حل نحلك (أي مَن اختار نهجك – المحرر-) من علو القدر وعزة الأمر، من قرين يعانده، أو حاسد يُكابده، أو مُتطلع يمُتُّ للملك بقربى… » كما أنه يخصص ركنا من الأركان الستة، التي تتكون منها الإشارة ل « سيرة الوزير مع من يتطلع لهضبته ويحسده على مرتبته »، وعموما يمكن الحديث عن نوعين من السلوك، لمواجهة هؤلاء « الحساد »: الأول وقائي والثاني عملي.
يتمثل السلوك « الوقائي » في اجتناب الوزير « الزيادة في الاستكثار من الضِّياع (جمع ضيعة) والعقار والجواهر النفيسة والأحجار (الألماس)… » لأنها تقدم الفرصة لمن في قلبه ضغينة » يُحصي عليه ما جلبه الحظ إليه. واجتناب الاستكثار من الولد والحشم (…) فإن الحاسد يراهم بذخا ونعمة. ويتمثل السلوك العملي في أن يُجاهد الوزير هذه الجماعة، ويقمع منها الطماعة، وذلك باستمالتهم أولا ب »فضائله الذاتية »، ومقابلة « حسدهم » بالإنعام عليهم، ثم اصطناع أضدادهم، وخاصة بعدم الركون لأحد، وحسن اختيار من « يصطنعه لخدمته ». غير أن مختلف هذه النصائح لن تُجدي كاتبها نفسه، الذي صدر في حقه أمر سلطاني بالقبض عليه، وفتوى تقضي بإعدامه، فقُتِل خنقا في محبسه
الصحافي خالد الجامعي: الوشاية هي الأساس في محيط الملك
قضى الزميل خالد الجامعي، زهاء أربعة عقود، في الاشتغال على المشهد السياسي المغربي، من موقع الصحافي المُتتبع، والفاعل فيه، من خلال المسؤوليات القيادية التي زاولها في حزب الاستقلال، كما أنه مَرَّ مِن البلاط الملكي، في بداية حكم الملك محمد السادس، حيث كان من ضمن الذين اشتغلوا، لفترة قصيرة، إلى جانب فؤاد علي الهمة، على ملفات سياسية، غير أنه سرعان ما انسلخ، بعد بضعة أشهر، من ذلك المحيط المخزني، حين اختلفت وجهات النظر. ليعود الرجل إلى « قواعده سالما » – كما قال هو نفسه.. في هذا الحوار المُرَكََّز يتحدث الزميل الجامعي، عن بعض التفاصيل التي تتصل بتيمة « الوشاية في البلاط الملك
*****
س: كيف تنظر إلى طبيعة العلاقات، التي تؤطر بلاط الملك محمد السادس، بين أقرب مساعديه ورجال حاشيته في مربع الحكم؟
ج: أولا إن مجرد وجود هذا المربع الذي ذكرت في سؤالك، يدل على أننا نعيش في ظل حكم غير ديموقراطي، وهذا يدعو للأسف، فلو كان المغرب بلدا ديموقراطيا، لما كان هناك وجود لمثل هذا المربع، بل لكانت الأمور تُناقش، في المُؤسسات الدستورية المُنتخبة، ويمكن القول أن ما يدور في مربع الحكم، المُحيط بالملك، ليس سوى تصفية حسابات دائمة، بين الموجودين فيه، وهم عبارة عن أشخاص يتهافتون ويهرولون للحصول على رضا ولي نعمتهم.
س: ما الذي يحدد هذه الصراعات؟
ج: إنها صراعات شخصية، ويمكن أن تُضاف إليها، المصالح المادية، لوجود رغبة ملحة لدى المتصارعين، لمراكمة الثروات.
س: إن في الدولة، مجموعة من المهام الجسيمة، من قبيل الملفات الاقتصادية والأمنية والعسكرية.. إلخ، فهل لدى الأشخاص المحيطين بالملك، برامج يتنافسون فيما بينهم لتطبيقها أم لا؟
ج: إن الأشخاص الذين نتحدث عنهم، ليست لديهم رؤية مستقبلية، بل يعيشون ليومهم في انتظار الغد، وكل همهم واهتمامهم، مُنْصَبٌّ إلى طبيعة النظرة، التي سيُلقيها عليهم سيدهم عندما سيلتقي بهم، أي « واش راضي عليهم ولاَّ لا » أما مشاكل الدولة، وما يقع فيها، فلا تهمهم، المهم بالنسبة إليهم، شيء واحد غاية في الخطورة، هل تعرف ما هو؟
س: لا، ما هو؟
ج: إنه ينحصر فيما إذا كان الملك قد منحهم ظهر يده فقط، أم بطنها كذلك، فهذا يعني بالنسبة لهم أنه ساخط عليهم.
س: وماذا عن موضوع الوشاية داخل مربع الحكم بالقصر الملكي؟
ج: إن الوشاية هي الأساس في ذلك المكان.
س: كيف؟
ج: الوشاية و « القشور ديال البنان هوما لي كاينين ».. فكل واحد من بين المحيطين بالملك، يريد أن يمحي الآخر.
س: هل لديك مثال على ما تقول؟
ج: لقد أصبح معروفا اليوم، حسب المعلومات المُتوفرة، أن الشخص الذي فجَْر قضية الاستيلاء على أرض تارودانت، من طرف الكاتب الخاص للملك، محمد منير الماجيدي، هو فؤاد علي الهمة.
س: كيف تم ذلك؟
ج: لقد حصل على تلك المعلومات من وزارة الداخلية، واستخدمها ضد غريمه في مربع الحكم الملكي، وهكذا دواليك، فحينما يُريد أحدهم، أن يُصفي حسابا ما، مع غريم له « كايزرع ليه شي قشرة ديال البنان ».
س: مَن الذي وضع قشرة الموز لفؤاد الهمة، وتركه يتخبط الآن في المشهد السياسي خارج مربع الحكم؟
ج: إنها بالتأكيد مؤامرة يشترك فيها منير الماجيدي والمستشار مزيان بلفقيه.
س: كيف ذلك؟
ج: لأن الرجل كان قد أصبح قويا، بما جعلهم يتضايقون منه، لذا سعوا إلى التخلص منه.
س: ما هي الطريقة التي استعملوها لتلك الغاية؟
ج: يجب القول أنه شخص غير ذكي، حيث اعتقد أنه قادر على صنع حزب سياسي، حينما كان في وزارة الداخلية، واعتقد أن الناس سيتعاملون معه، وكأنه ما يزال في منصبه الكبير، على رأس وزارة الداخلية، في حين أنه حينما خرج من هذه الأخيرة « ما بقى فيه نفع لحتى واحد ».
س: إذن أنت تعتقد أنه لم يعد للهمة أي دور داخل مربع الحكم؟
ج: نعم إن هذا صحيح في الوقت الراهن، لكن هذا لا يمنع، أنه غدا أو بعد غد، سنراه يعود إلى مربع الحكم.
س: بمعنى؟
ج: ذلك لأن منطق المخزن هو هذا، وتصدق عليه مقولة « يوم لنا ويوم علينا ».
س: باعتبارك واحدا من المشتغلين بالحقل السياسي المغربي، لفترة طويلة، كيف ترى ما يؤطر العلاقات داخل مربع الحكم؟
ج: ما يمكن قوله هو أن المغرب يعيش، كما قلت لك من قبل، في ظل الحكم الفردي، وبالتالي فإن المؤسسات لا تلعب أي دور، والبلاط، هو من يقرر كل شيء، كما أن السلطة في هذا الأخير غير مستقرة، فاليوم تكون السلطة بين يدي الهمة، لتنتقل في الغد الى الماجيدي، أما في اليوم الذي بعده فستأول لمزيان بلفقيه، ثم إلى رشدي الشرايبي، وفيما بعد لياسين المنصوري، وهكذا دواليك، ويمكن أن نختصر ذلك في المقولة الشعبية « الشهوة شهوة مول المظل يمشي فالشمس ولا فالظل ». أي أن كل شيء رهين بمزاج الملك، فقد يكون اليوم مثلا « راشقة ليه على فلان » فيمنحه مهمة أساسية، كما يُمكن أن ينزعها منه غدا، وهنا أتساءل: لماذا نحن الصحافيون، نهتم بمسألة شكلية، تتعلق بهوية الشخص الذي يركب إلى جانب الملك في سيارته. هل هو الهمة أو المنصوري أو غيرهما؟ فغدا إذا ما شاهدوا خالد الجامعي مع الملك في سيارته، فسيقولون « صافي خالد هو لي ولا كولشي ».
س: كيف تفسر هذه الذهنية؟
ج: ألفت انتباهك، إلى أننا لا نتوفر على صورة واحدة للوزير الأول، عباس الفاسي، أو غيره من الوزراء، مع الملك في سيارته، إن طبيعة الحكم في المغرب تقوم على أمور رمزية، فحينما يقول الملك مثلا للهمة (اركب حدايا) فهو بذلك يريد أن يقول للناس بأنه (راضي عليه) أما إذا ركب إلى جانبه في اليوم الموالي ياسين النصوري، فكأن الملك يقول للناس (راه لي راضي عليه اليوم هو المنصوري ماشي الهمة) وهكذا.
س: هل يمكن أن نأخذ بجدية مثل هذه الأمور البسيطة، ونتخذها كمعيار للنفوذ من عدمه، في دواليب الدولة؟
ج: نعم، مع استدراك أن ذلك يكون في دواليب جهاز المخزن وليس الدولة، فهناك فرق كبيربين مفهوم الدولة ومفهوم المخزن، فالأولى مؤسسات قائمة بذاتها، من الوزير الأول إلى البرلمان.. إلخ، في حين أن الأشخاص النافذين هم المحيطون بالملك، ويستمدون قوتهم ونفوذهم من قربهم منه.
********************
الدكتور « لحسن بروكسي »: التآمر والتنافس من صميم الذهنية المخزنية
يُعتبر « لحسن بروكسي » واحدا من الأطر القلائل في المغرب، الذين جمعوا بين التجربة الميدانية، في العمل من داخل جهاز السلطة، وفي نفس الوقت، الاحتفاظ بحاصية المثقف، الذي يُنتج نصوصا أكاديمية حول مجال اشتغاله: « بنية السلطة المغربية » وذلك عبر مختلف تجلياتها، الإدارية والترابية والاجتماعية… وقد ألف لحد الآن أربعة كتب في هذه المواضيع، اشتملت على مرجعيات ميدانية وفكرية غنية، يمكن اعتبارها خلاصة لتجربة متعددة، في العمل بوزارة الداخلية، من موقع الإشراف على مجموعة من اللجن والمصالح القطاعية. اتصلنا بالدكتور لحسن بروكسي، واستقينا منه هذا التصريح في موضوع « الوشاية في البلاط الملكي ».
******
استهل د بروكسي تصريحه بالقول: « بالنظر إلى أن المجموعة المُحيطة بالملك، رافقته طوال مرحلة الدراسة، في المدرسة المولوية، وعبر مختلف مستويات الدراسة التالية، فقد كان طبيعيا أن يحصل نوع من التآلف، واستثباب بعض العادات داخل المجموعة، غير أنه حين أصبح محمد السادس ملكا، تغيرت الوضعية، وبالتالي التعامل غدا مختلفا، غير أن رفاق الملك، الذين اكتسبوا تكوينا متباينا، في مختلف الوزارات: الداخلية والخارجية، وباقي المؤسسات الإدارية والاقتصادية، اعتقدوا أن الأمور ستبقى كما كانت من قبل، لذا فإنه من الطبيعي أن يكون هناك نوع من التنافس، بل وحتى التآمر فيما بينهم، ذلك لأن مفهوم العبقرية في الذهنية المخزنية، تقتضي أن يكون هذا الصراع بين المُتنافسين في محيط الملك، بل يمكن القول، أنه في قلب النظام المخزني المغربي، من الضروري أن يكون هناك تنافس بين أفراد المجموعة المُحيطة بالملك، لإنجاز نوع من الاصطفاء او الاختيار، حتى يبقى الأقوى ويذهب الأضعف. غير أن هذا لا يمنع من أن تُمنح للفاشلين فُرص أخرى، حتى يستعيدوا أماكنهم وأدوارهم في المحيط المباشر للملك ».
وبصدد معايير النجاح في المحيط المذكور – يضيف د بروكسي – « إنها تقوم على مصداقية أفراد المجموعة، لدى الشعب، ولا سيما أن هذا الأخير اصبحت الأمور شفافة نسبيا أمامه، من خلال الدور الذي تُؤديه وسائل الإعلام، وتنظيمات المُجتمع المدني، غير أنه يبقى للملك وحده تحديد ما إذا كان الأفراد المحيطون به قد نجحوا في مهامهم أم لا.
ثم يستطرد: « لقد أصبح أفراد الحاشية الملكية، رجال مُهمات، وبالتالي اقتضاء استعمال معيار النجاح أو الإخفاق. غير أن هناك معايير اخرى ترتبط بالسلوك الشخصي، وهذا الأخير في المفهوم المخزني، منذ القديم، يفرض ان يكون الفرد المنتمي للحاشية متمتعا بالتوقير، أي يحظى بالاحترام لدى فئات المجتمع، وذلك نظرا للرموز التي تؤطر دار المخزن، في الذهنية المُجتمعية، وحينما يكون سلوك الشخص منحرفا، فإن صورة المخزن تتضرر. علما أن السلوك داخل دار المخزن، يتسم بضرب من الأرستقراطية، شبيهة بتلك التي تؤطر البلاط الملكي في انجلترا. لذا يمكن القول أن لدار المخزن معاييرها في نمط السلوك والمعاملات، فهي مبنية على الرموز، ومعناها أن يكون ممثلو دار المخزن نماذج في السلوك.. حيث لا يجب أن يثير أفراد المجموعة، فضائح ترتبط بالسلوك الشخصي، وفي المجالات المالية والأخلاقية ».
ثم يُؤكد الدكتور بروكسي: « غير أن الواقع يفيد، أن طبيعة احتداد التنافس، بين أفراد حاشية الملك، يفرز العديد من الأشخاص، من ذوي السلطات النافذة في الدولة، يتسببون في العديد من الفضائح، وهو أمر شبه حتمي، غير أن ذلك النوع من السلوك يكون له حدود، حينما يُصبح مُضرا بصورة دار المخزن، وبالتالي يتدخل الملك، في جو من السرية والتكتم لحل المشكلة ».
ويشرح د بروكسي هذه النقطة قائلا: « أسلوب حل المشاكل التي تتسبب فيها السلوكات الفضائحية، في دار المخزن، يكون عبر العقاب بطريقة هادئة، حيث يتم ترك سخونة الموقف تبرد على مهل، قبل التدخل عن طريق إبعاد المعني، أو تركه في مهمته مع التعامل معه بجفاء غاضب، وهو وضع أقرب للعزل. إن هناك مدرسة مخزنية للتأديب تقوم على مجموعة من طرق العمل، التي دأب عليها ملوك العلويين، وأفراد الحاشية الملكية يعرفونها بالسليقة، لأنهم يستمدون قوتهم من عطف الملك، وبالتالي الثقة التي يضعها فيهم. وحين يتم سحب ذلك العطف وتلك الثقة، يتم استبعاد المُعاقبين، ولو ظلوا في مناصبهم، وبالتالي يحدث لدى المعنيين بغضب الملك، تأزم نفساني. وهو ما يُسمى بالغضب الملكي الصامت ».
ويستخلص في الختام بهذا الصدد: « إن هذا النوع من العقاب للخاصة، من أفراد حاشية الملك، يختلف عن الغضب الذي يطال باقي خُدام الدولة، من درجات أدنى، حيث يُمكن للملك أن يحسم للتو، في مصير أحد الجنرالات، أو العمال والولاة والوزراء، وباقي خُدام الدولة من مستويات أدنى ».
المصدر : مدونة مصطفى حيران