يعيش المغرب في الوقت الراهن حالة من الغليان السياسي والاجتماعي في إطار الربيع العربي، ومع هذه التطورات تصبح المخابرات المغربية وخاصة المدنية منها مطالبة أكثر من أي وقت بإنجاز تقارير للمؤسسة الملكية ترصد الوضع وتقترح توصيات وحلولا حول طريقة التعامل مع المستجدات. وبهذا فهي تساهم في صنع القرارات التي يتخذها الملك كما تؤثر على توجيه الأحداث المستقبلية. ويبقى التساؤل الأساسي، هل تراعي التقارير المصداقية المطلوبة حتى يكون اتخاذ القرار من طرف السلطات العليا صائبا؟ ومن جهة أخرى، هل التزمت هذه المخابرات الأمانة في تعاملها مع الواقع أم زيفت التقارير وبالتالي تتحمل بدورها جزءا كبيرا في المآسي التي وقعت منذ الاستقلال حتى وقتنا الراهن ؟ وأخيرا، هل يمكن إصدار قانون لمراقبة المخابرات على شاكلة الدول الديمقراطية؟
تعمل المخابرات المغربية، التي شكل قرار إنشائها سنة 1974 وبتوصية من الفرنسيين (ولهذا فالجهاز يحمل اسم مطابق للاستخبارات الفرنسية)، على مراقبة المجتمع السياسي من خلال استقطاب زعماء سياسيين وتقزيم دور اليسار الكلاسيكي المتمثل في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولاحقا الاتحاد الاشتراكي ثم مكافحة الفكر الماركسي من خلال تفكيك الخلايا السرية لتنظيمات مثل إلى الأمام و23 مارس ولاسيما ضرب أي تنسيق بينها وبين حركات خارجية.
لكن المخابرات، خصوصا في عهد حسين جميل، لم تتخلص من الرؤية الأمنية الضيقة التي سادت في الستينات والسبعينات، فكانت التقارير التي يرفعها إلى الحسن الثاني حول مستوى قوة اليسار الراديكالي وكذلك حزب الاتحاد الاشتراكي مبالغ فيها، وترتب عنها صدور أوامر بالاعتقال والتعذيب والمحاكمات الصورية. ولعل التفسير الرئيسي لهذه المبالغة هو أن جهاز المخابرات وقتها كان يفتقد لمفهوم الاستخبارات الحقيقية المتمثل في تحليل المعلومات وتقييم الوضع وتقديم توصية في الموضوع. فرغم أن الفكر الماركسي لم يكن متغلغلا نهائيا في الجيش وحضوره وسط المجتمع لم يتعدى مجموعة من الشباب البعض منهم كان في طور المراهقة السياسية واكتشفوا لتوهم عالم كارل ماركس إلا أن القمع المفرط كان هو الطريقة المتخذة في معالجة الحركة الماركسية المغربية. ونتج عن هذا الخطأ في التقييم السياسي تقديم المغرب لفاتورة مرتفعة الثمن سياسيا في ملف حقوق الإنسان أمام الرأي العام الدولي، وكان من نتائج هذه السياسة الأمنية ضد اليسار، قيام فالسوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي حاليا) في بداية التسعينات بإلغاء وتجميد الكثير من الاتفاقيات مع المغرب واشترطت إطلاق سراح نشطاء اليسار، وهو ما رضخ له الحسن الثاني في آخر المطاف.
بعد إقالة حسين جميل، بقي منصب المدير شاغرا من 1983 إلى 1985، تاريخ تعيين علابوش الذي جمعته صداقة وثيقة بالوزير الراحل إدريس البصري. تعيين علابوش تزامن وانفلات المخابرات المدنية من هيمنة الجيش المتمثلة في الجنرال الدليمي، وأصبحت تحت سيطرة إدريس البصري الذي تحول ابتداء من منتصف الثمانينات إلى الرجل القوي في مملكة الحسن الثاني، وتولى عرش الملوك غير المتوجين أمثال أوفقير والدليمي.
وفي عهد المدير الجديد تراجع العنف السياسي، رغم تورط المخابرات في تضخيم ملفات بعض المعتقلين ومن منهم مجموعة 26 التابعة لتنظيم إلى الأمام سنة 1986. ولعل السبب في هذا التحول هو الضغط الدولي من جهة ومن جهة أخرى التحول الذي طرأ على الحسن الثاني الذي كان يفكر ومنذ أواسط الثمانينات في إرساء أسس السلم الاجتماعي، حيث بدأ وقتها يخطط لآليات انتقال العرش بعدما ارتفعت معاناته مع مرض القلب.
هذه الفترة تميزت بنوع من التسيب وسط هذا الجهاز وعدم الانضباط وخاصة في بعض المناطق الواقعة في “مثلت الإغراء” طنجة-تطوان-الناضور، وهي مناطق معروفة بالمخدرات والتهريب. وتحول بعض رجال الاستخبارات إلى أشبه برجال الأعمال مستغلين موقعهم الأمني لابتزاز بارونات المخدرات بدل محاربتهم. ولم يتردد ضباط منهم في الجمع بين العمل الاستخباراتي والسمسرة في جوازات السفر والسيارات. وهي فترة سوداء في تاريخ المخابرات بحكم أن بعض الأجهزة الإستخباراتية الخارجية استطاعت استغلال تورط بعض أعضاء المخابرات المغربية في المخدرات للضغط عليهم وتحويلهم إلى عملاء لديها، وهو ملف لم يتم التطرق إليه نهائيا بشكل علني إلا مرة واحدة في البرلمان سنة 2000.
والقفزة النوعية التي أراد تحقيقها إدريس البصري وعلابوش لم تكن في تحديث عمل الاستخبارات كمؤسسة بل اقتصر على تكوين ضباط وإرسالهم إلى الخارج ضمن البعثات الدبلوماسية والعمل تحت يافطة قناصلة أو نواب القنصل لمراقبة الهجرة المغربية وخاصة نشطا اليسار وكذلك أعضاء البوليساريو. ولكن، هذه المبادرة لقيت معارضة شديدة من المخابرات العسكرية وكان مديرها الجنرال عبد الحق القادري وكذلك من طرف وزير الخارجية وقتها عبد اللطيف الفيلالي الذي كان يتخوف من تحول وزارة الخارجية إلى ملحقة للداخلية مما سيؤثر على صورتها في الخارج.
يتبع – المخابرات المغربية في عهد محمد السادس
مرجع :
المخابرات المدنية المغربية DST بين عهدي الحسن الثاني و محمد السادس