كان إعلان الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، في الـ11 من ديسمبر/كانون الأول، أن الولايات المتحدة ستعترف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية بمثابة سقطةٍ جديدة لإدارته، كما يصف ذلك جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، في تقرير بمجلة Foreign Policy الأمريكية. فبموجب صفقةٍ غير ذات صلة لتسهيل تبادل العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والمغرب، أطاح قرار ترامب بأي حل لمشكلة الصحراويين وتخلّى عن ثلاثة عقود من الدعم الأمريكي لحقهم في تقرير المصير عبر استفتاءٍ حول الوضع المستقبلي للإقليم الذي ظلت شرعيته مثار جدل لعقود في شمال غربي إفريقيا.
الصحراء الغربية للمغرب.. والثمن: التطبيع الفوري مع إسرائيل
وليست العلاقات الدافئة -غير الرسمية- بين إسرائيل والمغرب أمراً جديداً. إذ لطالما فكّر المغرب في الاعتراف بإسرائيل، وقد سعى الملك حسن الثاني بقوة إلى تحقيق ذلك الخيار في التسعينيات، كما فعلت دولٌ عربية أخرى. وصارت الاتصالات الإسرائيلية-المغربية السرية أمراً شائعاً منذ ذلك الحين.
واليوم، لم تعُد العلاقات الكاملة أمراً جديداً أو صعب التحقيق. إذ أخذت الإمارات والبحرين المبادرة مؤخراً، وربما تتبعهما عدة دول. لكن ما اتفق عليه المغرب يظل غير واضح المعالم، لأن الرباط أنكرت أنها ستفتح أكثر من مجرد « مكتب اتصال » بإسرائيل (وهو ما حدث في التسعينيات)، ونفت كذلك أن تكون الصفقة تتضمّن علاقات دبلوماسية كاملة.
يقول بولتون: وباتخاذ « قراره المتسرع »، لم يستشر ترامب الطرف الآخر من النزاع، وهم جبهة البوليساريو -التي تقول إنها تمثّل شعب الصحراء- أو الجزائر وموريتانيا اللتين تعتبران من دول الجوار الأكثر اهتماماً بالقضية، أو حتى الأمم المتحدة أو مبعوثيها الذين انخرطوا بالتوسط في هذه الأزمة، أو أي شخصٍ آخر.
ويضيف بولتون الذي كان مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب من أبريل/نيسان 2018 إلى سبتمبر/أيلول 2019: « هذا هو ما يحدث حين يتولّى الهواة مسؤولية الدبلوماسية الأمريكية، وهو أمر معتادٌ للأسف من نهج ترامب القائم على المعاملات إبان فترته الرئاسية. فكل شيءٍ بالنسبة له صفقةٌ مُحتملة، وينظر من منظور ضيق للغاية عبر مدى انتباه لا يتجاوز ذبابة الفاكهة. إذ إن الموازنة الكاملة بين المزايا والمصالح، التي تنطوي عليها السيناريوهات الدولية المعقدة، ليست أسلوبه. الخلفية التاريخية والتداعيات المستقبلية؟ هذه أمورٌ متروكة للخاسرين. ولحسن الحظ لم يعقد ترامب صفقةً نووية مع كوريا الشمالية أو إيران، ولك أن تتخيّل ما كان سيُضحي به حينها ».
كيف سيتعامل بايدن مع قرار ترامب حول الصحراء الغربية؟
أين إذن تترك خطوة ترامب المتهورة وغير الضرورية الرئيس المنتخب جو بايدن، والحكومات الأجنبية المهتمة بشكلٍ مباشر بحل قضية الصحراء الغربية؟
تبدأ الإجابة كما هو واضح باسم عملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بموجب القرار رقم 690 لسنة 1991: « بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية » (مينورسو). فحين انهار الاستعمار الإسباني -الذي كان سبب أزمة الإقليم الصحراوي من الأساس- إثر وفاة فرانسيسكو فرانكو عام 1975، وبعد نزاعٍ أوّلي بين موريتانيا والمغرب، تركت الأعمال العدائية العسكرية بين البوليساريو والمغرب تلك المنطقة مُقسّمة وبلا حلٍّ لوضعها. وكان الخيار العملي بالنسبة للبوليساريو في عام 1991، هو وقف المواجهة القائمة مع المغرب في مقابل إجراء استفتاء، ويكون الخيار فيه بين الاستقلال والوحدة مع المغرب.
ومع ذلك، قضى المغرب نحو ثلاثة عقود في الحيلولة دون إجراء الاستفتاء. وبالتعاون مع فرنسا وحلفائه في مجلس الأمن، حاول -ونجح بعض الشيء – في طمس التزامه بقرار الاستفتاء رقم 690. وعرضت الرباط بدلاً من ذلك مجموعةً متنوعة من مقترحات الحكم الذاتي المزعومة، التي لم يكُن أيٌّ منها قريباً حتى من الحصول على قبول الطرف الآخر، واقترحت أن يكون الاستفتاء على الاندماج أو الحكم الذاتي.
وبالنسبة لشعب الصحراء، كان الاقتراح أشبه بفرضٍ للأمر الواقع، لذا لم يكُن مقبولاً على الإطلاق. ومن منظور المغرب، يمكن أن يستمر هذا النوع من عمليات السلام للأبد، حيث تسيطر الرباط على الجزء الأكبر من أراضي الصحراء الغربية عسكرياً، إلى جانب محاولتها التمدد التوطيني القادم من الشمال على حساب الصحراويين. بينما دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في تصريحه عقب إعلان ترامب مثلاً، إلى الحفاظ على وقف إطلاق النار الخاص بعام 1991. لكنه لم يتحدّث إلا عن « استئناف عملية السلام ».
وبالنسبة للبوليساريو، فإنّ تحوّل ترامب هو أكثر من مُخيّب للآمال، كما يقول بولتون. إذ خرق الالتزام الأمريكي الذي كان يبدو قوياً وصلباً في يومٍ من الأيام، ومع الأسف، ليس الصحراويون هم الوحيدين الذين تعرّضوا لانتهاك أحد التعهدات الأمريكية في فترة ترامب، الذي عرّض التحالفات الرسمية الأمريكية القديمة مثل الناتو، للخطر. ولا ضير في أن تغير دولةٌ مسؤولياتها في ضوء تغير ظروف الأمن القومي، لكن الأمر يختلف تماماً حين تقوم الدولة بتدمير التزاماتها من دون مبرر وبلا استشارة، لمجرد عقد صفقة مزعومة في سياقٍ مختلفٍ تماماً. ولحسن الحظ، أنّ فترة ترامب الرئاسية تلفظ أنفاسها الأخيرة، يقول بولتون.
هل يلغي بايدن اعتراف ترامب بمغربية الصحراء الغربية؟
يقول المستشار الأمريكي السابق، إنه من منظور السياسة الأمريكية، ستكون النتيجة الأفضل أن يُلغي بايدن -فور تنصيبه- اعتراف ترامب بالسيادة المغربية. ولن يكون ذلك سهلاً بالنظر إلى التوقعات -المُضلَّلة- التي تكوّنت بالفعل في الرباط وتل أبيب. ولو أراد بايدن قلب الأوضاع، فعليه أن يفعل ذلك فوراً بمجرد توليه المنصب× لتقليل الأضرار.
وهناك عقباتٌ أخرى بالطبع. فمن المفارقات أنّ لا مبالاة ترامب منحت بيروقراطية وزارة الخارجية ما أرادته تحديداً منذ أن واجه قرار 690 مقاومةً مغربية عنيدة بعد أشهر من تبنّيه قبل ثلاثة عقود. وجادلت الرباط بأنّ الخسارة في استفتاء الصحراء الغربية ستزعزع استقرار نظامها الملكي، وقد وافقهم الرأي البيروقراطيون في وزارة الخارجية.
وفي الواقع، سوف تعتمد نتيجة الاستفتاء بالكامل تقريباً على هوية من يُشكلون السكان الذين يحق لهم التصويت، وهي القضية الأخرى التي ينازع عليها المغرب رغم التزامه السابق بالإحصاءات الرسمية الإسبانية الصادرة عام 1975 لتحديد هوية الناخبين المؤهلين، قبل حقبةٍ طويلة من سعي المغرب لهندسة التركيبة السكانية في المنطقة بما يتماشى مع مصالحه. وعلى الرغم من عمليات النقل الكبيرة لسكان المغرب إلى الصحراء الغربية، والفوائد المفترضة لحكمها، ما تزال الرباط ووزارة الخارجية الأمريكية تخشيان أنهما لم تفعلا ما يكفي لتحقيق النتيجة المرجوة.
ولم يعُد المغرب قلقاً فعلياً بشأن تقويض استقرار نظامه الملكي إثر تطبيع العلاقات الدبلوماسية رسمياً مع إسرائيل، كما هو الحال في البحرين والإمارات وأي دولة خليجية عربية أخرى تسعى لذلك. وتنطوي حجة المغرب في الواقع على أن الرباط صدّقت الدعايا التي تنشرها، بدلاً من السبب الكامن لسيادتها، وهو رغبتها في السيطرة على الموارد المعدنية الكبيرة التي يُحتمل أن تكون مدفونة تحت رمال الصحراء، وأصول الصيد، وفرص التنمية المحتملة للمنتجعات السياحية.
وسيكون لدى بايدن بالطبع أمورٌ أخرى تشغل باله في الـ20 من يناير/كانون الثاني بعيداً عن الصحراء الغربية. وحتى يصوغ بايدن ومستشاروه سياستهم الخاصة، يُمكنهم الإشارة إلى أنّ قرار ترامب قيد المراجعة، مع التأكيد في الوقت الحالي على أن الاستفتاء ما يزال شرطاً أساسياً حتى تعتبر الولايات المتحدة قضية الصحراء الغربية قضيةً محلولة. ويجب ألا تقبل واشنطن بأي قرار لم يقبل به شعب الصحراء في تصويتٍ حر وعادل وتحت إدارةٍ دولية، عن طريق الاقتراع على الاستقلال الكامل بـ »نعم » أو « لا » في بطاقات الناخبين. وربما لن يملك المغرب بديلاً آخر عن القبول بهذا الأمر في حال إصرار الولايات المتحدة، يقول بولتون.
يضيف بولتون: « بالنسبة لقادة الجزائر وموريتانيا وأوروبا، فلن يخسروا الكثير في حال عكس بايدن مسار خطوة ترامب (المُضلَّلة). بل سيتنفس الجميع الصعداء، لأنّ احتمالية نشوب الصراع مع المغرب قد تأجّلت إلى وقتٍ لاحق على الأقل. ويجب أن تصر كل تلك الدول على أن مستقبل الصحراء الغربية لا ينبغي أن ينحرف عن مساره، في تطورٍ لن يخدم سوى المغرب بالنظر إلى سيطرته الفعلية على الجزء الأكبر من المنطقة ».
كيف سيؤثر ذلك على التطبيع المغربي الإسرائيلي؟
يقول بولتون، إن ما سيفعله المغرب رداً على سياسةٍ جديدة من بايدن، لن يُؤثّر على إسرائيل كثيراً. وربما يكون في مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن يتقبل رأي إدارة بايدن الجديدة حيال المنطقة إذا أراد أن يضيف إلى رصيده السياسي مع بايدن في القضايا الأكثر أهمية مثل التعامل مع التهديد الإيراني، دون أي تكلفةٍ على إسرائيل، لأن الصحراء الغربية لا تمثل قضيةً لإسرائيل.
ويُمكن أن يستدعي الاتحاد الأوروبي بعض الكلمات حول حق تقرير المصير؛ للمساعدة في دفع العملية إلى الأمام، خاصةً إسبانيا التي تعتبر قوة استعمارية سابقة وبها دعمٌ قوي لشعب الصحراء، وفرنسا حامية المغرب. ولو اختارت تلك الدول السكوت، فيجب أن تظل في صفوف المتفرجين الصامتين وتتجنّب مضاعفة خطأ ترامب.
ومن شأن اتفاقٍ بين الحزبين عقب التنصيب أن يُساعد في إصلاح الفوضى التي سببتها مظاهر ترامب التي لا داعي لها. واتفاقٌ من هذا النوع سيُمثل تغييراً مرحَّباً به بعيداً عن السنوات الأربع الماضية التي عمَّتها الفوضى والانقسامات، وعودةً لرعاية المصالح القومية الأمريكية بدلاً من مصالح ترامب.
عربي بوست