عن المشعل
« الحسن الثاني كان شخصا مرعوبا ومضطربا على الدوام ».. إنها الخلاصة التي يمكن أن يخرج بها المرء وهو يطَّلع، بغير قليل من الدهشة، على بعض تفاصيل الحياة اليومية للملك الذي ظل مصرا طوال قرابة أربعة عقود، على أن يكون رئيس الدولة السياسي والعسكري والديني.. ناهيك عن ألقاب « الزينة » و »البطولة » من قبيل: « الرياضي الأول » و »الفنان الأول ».. وغيرها من التسميات، في كل المجالات التي ارتبطت بالتفوق والعبقرية البشريين.. بيد أن القلة القليلة جدا، كانت تعرف أن الحسن الثاني « تفوق » أيضا في جوانب أخرى مثل الخوف والقلق.. كيف لا والتفاصيل التي بين أيدينا، والتي راكمناها أثناء إعداد هذا الملف، تفيد أن الحسن الثاني، كان يخاف من أشياء كثيرة، منها حشود الناس حينما كان يصادف، أو يكون مُعدا له (كما حدث مرة في ليبيا، خلال زيارة رسمية بدعوة من العقيد « معمر القذافي ») أن يجد نفسه في مواجهة الجموع الغفيرة، حيث كان من أخوف ما يخافه، أن تُصوب اتجاهه طلقة قاتلة، تُسقِطه مضرجا في دمائه، كما حدث للرئيس المصري السابق « أنور السادات » على أيدي ضباط جيشه، كما أن الحسن الثاني، ظل قٌرابة ثلاثة عقود لا يسبح في مسبح القصر، مخافة أن يُفاجئه الانقلابيون وهو في وضع « مشين » لا يرتدي سوى « مايوه » السباحة..
أما تفاصيل الحياة اليومية بالقصر، فكانت قطعة سميكة من توتر وقلق، أغلب الأيام، لأن مزاج الحسن الثاني كان شديد التعكير، بسبب هواجسه التي تُبقيه أغلب الليل مستيقظا، لينام حين يستيقظ أفراد « شعبه الوفي ».. ويقوم من فراشه عندما تكون الشمس قد مالت نحو النصف الأخير من اليوم.
الحسن الثاني كان مُقيما على بساط من قلق.. إنها واحدة من الاستنتاجات، التي تمنحها المعطيات القليلة بهذا الشأن، لذا لم يكن مستغربا، أن يتحول شخصه إلى كتلة من غضب وقلق، وسخرية تقض مضاجع كل الذين اقتربوا منه، بهذا المستوى أو ذاك، كان على سبيل المثال، يقلب الأجواء بالقصر رأسا على عقب، حينما يستيقظ من نومه، كما كان يجد متعة كبيرة، في جعل ضيوفه ينتظرونه الساعات الطوال قبل أن « يشرفهم » بلقائه، كما لم يكن يتورع عن استدعاء وزراء حكوماته المُتعاقبة، في ساعات متأخرة من الليل، حيث تكون سِنّةُ النوم تُداعب أجفانهم.. إلى غيرها من التفاصيل، التي تثير لدى قارئها، أو المستمع إليها ابتسامة ساخرة، في أقل الأحوال، وفي أقصاها تحشد لديه تأملا كثيفا، في الطبيعة النفسية والشخصية الغريبة للحسن الثاني، الذي أصر على أن يحكم، ملايين المغاربة، الذين تضاعف عددهم ثلاث مرات، خلال فترة حكمه، على إيقاع مزاجه الخاص جدا.
الملف التالي تجميع لبعض المعطيات التي تخللت الحياة اليومية للحسن الثاني، وأقرب المحيطين به، من أفراد أسرته، وباقي سكان القصر الذين قادهم قدرهم لـ « معايشة » كائن استثنائي.
مخاوف لازمت الحسن الثاني طوال فترة حكمه
ظلت المسألة الأمنية، في صلب الانشغالات خلال السنوات الثمانية والثلاثين، التي دامها حكم الحسن الثاني، وإذا كان الحديث قد انصب بهذا الصدد، ولو « باحتشام » على الآليات المؤسساتية والسياسية، التي اعتمدها الملك الراحل، لتحقيق رؤيته لشؤون الحكم، بما يجعل المؤسسة الملكية حجر الزاوية في النظام المغربي، على جميع المستويات.. فإن هناك جوانب وتفاصيل تمت لما هو شخصي ونفسي، حتمت وجود تلك السياسة الأمنية التي صُرِّفت في البلاد وبين العباد. منها مثلا أن الحسن الثاني كان رجلا مهووسا بأمنه الشخصي لاعتبارات عديدة، منها أيضا أنه اختار أن يستفرد لوحده بشؤون الحكم، وبالتالي كان ضروريا، حسب المنطق الذي اشتغل عليه، أن يتوفر على أذرع أمنية تجعله قادرا على الإمساك بزمام الأمور مهما كانت الظروف، وبطبيعة الحال لم يكن ذلك ليمر دون أن تبرز تناقضات عديدة، كان من أهمها أنه تعرض لمحاولتين انقلابيتين عسكريتين، على مدى سنتين متواليتين، كاد يفقد فيهما، ليس حياته فحسب، بل انمحاء النظام الملكي، ذلك أن الضباط الانقلابيين، لم يكونوا ليتركوا للملكية « ترف » الاستمرار في زمن كانت فيه الأنظمة العسكرية « موضة » في العالم العربي، والعديد من دول العالم الثالث، عبر أرجاء المعمور.
وبطبيعة الحال، فقد كان من الصعب جدا على نظام ملكي، مطلق، بالشكل والمضمون اللذين أرادهما الحسن الثاني، أن يظل « ثابتا » في محيط محلي وإقليمي ودولي، متحول على المستويات الإيديولوجية (النموذجان الاشتراكي والاسلامي) لذا كانت تلك التناقضات النفسية تطفو على السطح، لكن لا تراها الأعين « المجردة » في بلاد كالمغرب، لم يكن فيه لوسائل الإعلام من دور آخر، غير « الإشادة » أو النقد المبطن، الذي لم يكن يسلم أصحابه (سيما في الصحافة الحزبية المعارِضة آنذاك) من الملاحقة والمتابعة، وبالتالي ظلت العديد من تلك التناقضات النفسية في أعلى مستوى هرم السلطة، حبيسة القلوب التي في الصدور، لدى الذين عايشوها من قلب مربع الحكم، والمُحيطين به. كما تناقل بعض العارفين بأسرار القصر، فما لأذن، الكثير من الغرائب والعجائب، عن التدبير النفسي لأمور الحكم، من نواته، أي القصر.. فعلوا ذلك بكثير من الحيطة والحذر. فالحيطان لها آذان كما يُقال، وثمة العديد من المآسي التي حلت ببعض الذين انفكت ألسنتهم قبل الأوان، غير أنه مع توالي السنوات، بدأت بعض التفاصيل العجيبة في الظهور إلى العلن، ولو في نطاق محدود، كان أغلبها مصدره كتابات أجنبية، نشرت على أعمدة الصحف الكبرى في أكثر من بلد غربي، ومؤلفات، عن الشأن المغربي، أغلبها فرنسي.
وقبل أن نبرح هذه النقطة، بصدد حدة الموقف الأمني، المرتبط ببعض تفاصيل تناقضات التدبير الأمني، في أبعاده النفسية، يجدر بنا الإشارة إلى مُعطاة أوردها الضابط السابق، أحمد المرزوقي الذي قضى ثمانية عشر عاما في سجن « تازمامارت » السري، على خلفية اتهامه ومُحاكمته، بتهمة المشاركة في الانقلاب العسكري الأول سنة 1971، وتُفيد – أي المعطاة – ضمن كتاب المرزوقي « الزنزانة رقم عشرة » أن ضابط صف مغربي، نُقل سرا، وبلا مُحاكمة، إلى سجن « تازمامارت » لأنه نطق يوما بعبارات تذمر أمام زميل له، من المهمة الموكلة إليهما، وكانت تتمثل في حراسة مدخل قصر إحدى شخصيات القصر الملكي، ووصف « المرزوقي » الظروف المأساوية التي توفي فيها ذلك العسكري الشاب، بعدما كان قد دخل السجن الرهيب في هيئة بدنية صلبة، ليخرج جثة متهاوية، إلى قبر مجهول، ذلك لمجرد كلمة قالها في لحظة تأفف، لزميل له غير أمين!
الواقعة إياها تشرح إلى أي مدى، كانت الاعتبارات النفسية هشة، بالنسبة لنواة الحكم في البلاد، وهي تكشف أيضا، عن الحساسية الفائقة، التي كانت لدى الحسن الثاني، كلما تعلق الأمر بسلامته الشخصية، و »هيبة » نظام حكمه المطلق.
غير أنه في ثنايا كل تلك الصلابة الظاهرة، التي لم يتورع الحسن الثاني عن إفشائها بكل السبل والوسائل، مهما أمعنت في المُغالاة، كانت ثمة نفس قلقة مضطربة، تخشى من أهون « الإشارات » ولو كانت على شكل وشاية غير دقيقة، ففي التفاصيل التي انفكت عنها الألسنة، تأكد أن الحسن الثاني، كان شخصا مسكونا بالخوف، لا ينام من الليل إلا أقله، ولا يقرب الطعام إلا فيما ندر، كما أن حالته المزاجية لم تكن في غالب الأحيان على ما يُرام، وأنه كان يعيش أيامه وكابوس انقلاب عسكري وشيك، يتربص به حتى في غرفة نومه، كما أنه لم يكن يثق بأي شخص، بما في ذلك أقرب مُقربيه، مما حوله إلى شخص لا يُطاق، حتى في لحظات نومه، حيث كان مطلوبا أن يظل القصر « نائما » في عز النهار، حتى لا يتم التشويش على الملك النائم.
التفاصيل كثيرة، غير أن أكثرها، ما زال طي الكتمان، ولا غرابة في ذلك، ما دام أن « تاريخ » المغرب السياسي، الذي رهن مصير أجيال المغاربة، لعقود طويلة، ما زال لم يُكتب بعد، ناهيك عن التفاصيل الشخصية والنفسية، التي أطَّرت السلوكات اليومية، للحسن الثاني، ذلك لأن أغلب هذه الأخيرة، تظل سجينة اعتبارات عديدة، منها مثلا أن المجتمع المغربي، ليس « بوحيا » (من البوح) بل « إخفائيا » (من الإخفاء) هذا إذا ما تجاوزنا « عقبة » اعتبارات الاحتراز والحذر، الأقرب إلى العصاب المرضي، كلما تعلق الأمر بأسرار رجالات السلطة النافذين، وعلى رأسهم الملك، حيث يفضل الناس عندنا « السلامة » على « الندامة ».. أما الذي يركب رأسه ويُفشي بما رآه من عورة الأسد، فيُشيع بتلك العبارة الدارجة، التي خلدت على لسان الممثلة والوزيرة « ثريا جبران » أو « قريتيف »: « ها ناري جابها فراسو ».
مهما يكن من أمر، فإنه من المستحيل دائما، أن تظل كل الأشياء طي الكتمان، حيث يُقيض لها دائما، مَن يخرجها، ولو ببطء شديد، إلى النور، وهذا ما حدث، ويحدث حاليا مع الكثير من أسرار التناقضات الشخصية والنفسية، الزاخرة التي حبلت بها فترة الحكم الطويلة للحسن الثاني.
ويمكن القول إن بعضا من التفاصيل المتوفرة بهذا الصدد، لا تخلو من غرابة، إذ كيف لامرئ مغربي « ألف » حتى « تكلس » وعيه، أن يفهم أن الحسن الثاني كان رجلا خائفا على الدوام، تطارده الكوابيس، ويشك في كل ما يحيط به، لأنه عاش لحظات عصيبة كاد أن يتحول فيها من مُطارد للناس إلى طريد، يجري وراءه العساكر وأيديهم على الزناد، لإردائه قتيلا متى أصبحت المسافة بينهم وبينه مُناسبة؟ كيف يمكن أن يفهم « يا أيها الناس » أن الملك الذي جعلهم يعتقدون، بقوة السلطة وجبروتها، أنه « أبدي » لا يموت.. (كيف لهم أن يفهموا).. أن الرجل كان إنسانا خائفا ومرعوبا، يتطير من خبر وقوع انقلاب في أحد أصقاع المعمور البعيدة، ويعتبره فألا سيئا، فيفسد نهاره بأكمله؟ وكيف لهم أن يفهموا، أن سكان القصر، سيما النساء، كُن دائما على أهبة الاستعداد للهرب في كل الاتجاهات، عند حدوث الأمر « الجلل » لدرجة أن الأحذية الرياضية كانت على الدوام تحث الأسرة، عسى يكون الإفلات؟ و.. و… وأسئلة كثيرة متناسلة، تحتاج إلى أجيال من المغاربة « المُبصرين » خلف هالة المُلك، الذي منحه الحسن الثاني « الصولة والصولجان » ليتسنى لهم أخيرا، فقط، الفهم، أن الإنسان يظل إنسانا، ولو كان في قالب مُلك مرمري؟
تحصينات الحسن الثاني المعمارية والبشرية
لُقب الحسن الثاني بأنه كان ملكا رحالة، ليس بالمفهوم الذي كان عليه الرحالة المغربي الشهير « ابن بطوطة » بل في اتجاه معكوس، أي أن الحسن الثاني كان رحالة داخل المغرب من خلال التسعة وعشرين قصرا التي توفر عليها في شتى أنحاء البلاد، في مدن مثل أكَادير وطنجة ومراكش وإفران.. والدار البيضاء إلخ، قصور فخمة فسيحة، هي في ملكية الدولة « رسميا » لكنها ليست كذلك « فعليا » ناهيك عن عشرات « الفيلات » المُصممة على الطراز المعماري للقصور، المسورة بشكل كثيف، بما يجعلها بمنأى عن الأعين المتلصصة، وذلك من خلال الحراسة المشددة التي تحيط بها.. غير أن قصر العاصمة في حي « تواركَة » يظل هو مقر الإقامة الرسمي، وبالتالي الأكثر تشددا في الحراسة.. وبالنظر إلى كل ذلك الهوس الأمني للحسن الثاني، فقد كان « طبيعيا » أن تكون الحراسة مستمرة أربعة وعشرين ساعة على أربعة وعشرين، حوالي كل جنبات قصر الرباط، الذي ظل رمزا معماريا لحكم العلويين منذ القرن الثامن عشر، فهو عبارة عن مدينة قائمة بذاتها، بأزقة ومصحة ومقبرة، ومجزرة لحوم، وثكنة عسكرية، ومسبحين، ومسالك الغولف، بثمانين حفرة، وملاعب كرة المضرب، وعشرات الفيلات، وغابة، ومركب سجني. إنها حسب وصف بعض الذين دخلوها، من بين خاصة الخاصة، مدينة متكاملة شبه مهجورة، لكن مئات الأعين مبثوثة في أرجائها، لا تترك مجالا للصدفة في أشد أركانها انعزالا.. فعند مستوى الحراسة الأول، هناك دائما عند كل مدخل من بين عشرات مداخل القصر الملكي بالرباط، حضور أمني مُكثف، قوامه أفراد من مختلف أجهزة الأمن السرية والعلنية، وفكرة الحسن الثاني من وراء ذلك، هي أن يراقب كل « عنصر » أمن الآخرين، في دوامة متشابكة ومعقدة لا تنتهي إلا لتبدأ، حيث يوجد جنبا إلى جنب، عساكر فرقة المظليين العسكرية، والحرس الملكي، وفرقة التدخل السريع، وحراس القصر الخاصين، والقوات المساعدة الملقبين بـ « الفرارج » ومئات من أفراد مديرية مراقبة التراب الوطني « دي .إيس.تي » ومكافحة التجسس « لادجيد » والدرك الملكي.. إلخ.
علق أحد الصحافيين الغربيين، ممن كتبوا عن الأجواء الأمنية بالقصر الملكي بالرباط قائلا: « إنها أجواء تذكر بفضاءات قصص الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس، حيث يتعلق الأمر بعالم شديد الإبهام، عبر متاهات شديدة التركيب والتعقيد ».. لا غرابة في ذلك، بالنظر إلى الخوف المقيم، الذي كان لدى الحسن الثاني من انقلاب ثالث يأتي على الملك والملكية، ليحقق ما فشل فيه الانقلابان السابقان، لسنتين متواليتين (1971 و1972). لذا فإن كل ذلك الحذر الأمني، دفع الحسن الثاني، إلى اعتماد تصميم هندسي جديد للقصر، جعلت ما هو « مهم » مختفيا بشكل يجعله لا يسترعي « الانتباه »، في حين أن الأقل أهمية، معروض بشكل سافر. فثمة مثلا أبواب خشب الأرز الثقيلة الضخمة، المنقوشة، لكنها لا تُفضي عند فتحها، سوى إلى مساحات فارغة، أما الأبهاء (جمع بهو) فكلها عبارة عن متاهات لا تنتهي، إلا إلى مزيد من التيه، أما الممرات، فتفضي إلى مزيد من أمثالها، بلا مخارج أو مداخل، بالنسبة لمن لا يمتلك أسرار جغرافيتها، هذا بينما تظل « الممرات » الحقيقية، سرا لأنها عبارة عن أسوار بلا منافذ، بالنسبة لمن لا يعرف المكان.. وحدها سراديب أدراج ضيقة جدا، إنارتها خافتة، لدرجة تبدو معها وكأنها ستؤدي إلى « لاكاب » تتجه إلى الإقامات الخاصة للحسن الثاني.
لا أحد باستثناء الحسن الثاني، كان يعرف مداخل ومخارج تلك الأبهاء المتاهية، وللإشارة فإنه حتى بالنسبة لأفراد أسرته – أي الحسن الثاني – وأقرب المُقربين منه، كان حتما عليهم المرور عبر مرآب « كَراج » يوجد في مكان جانبي، وليس المدخل السري الخاص بالحسن الثاني، فهناك، أي عند المرآب المذكور، ثمة مربد السيارات إلى جانب بناية مجهولة حيث يقضي السائقون والحراس الشخصيين سحابة يومهم.
إنها بعض متاهات قصر الحسن الثاني، التي صممها على هدي هواجس الخوف المُقيمة، كما سكنته طوال فترة حكمه.
لا طائرة تطير في بلاد الحسن الثاني إلا بإذنه
يتذكر أحد الصيادين المحترفين من مدينة القنيطرة، أن أحد مراكب الصيد غرق في عرض البحر قٌبالة شاطئ المهدية، خلال يوم عاصف من إحدى سنوات منتصف تسعينيات، القرن الماضي، لنستمع إلى الرجل وهو يحكي ما حدث: « كان على متن مركب الصيد سبعة صيادين، وبعدما توصلت إدارة الميناء بنداء الاستغاثة، تم الاتصال بقائد سرية الدرك الجهوية، من أجل تخصيص طائرة مروحية في عملية الإنقاذ » مُضيفا: « طال الانتظار الليل بأكمله، دون أن تظهر الطائرة المذكورة في الأفق » ليهلك الصيادون السبعة عن آخرهم في عرض البحر »!
إن الواقعة المأساوية المذكورة، تُعتبر واحدة من بين عشرات غيرها، عبر المدن الساحلية المغربية، وقد كان كافيا أن يٌُصدر قائد سرية الدرك المحلية حينها، أمرا بإقلاع واحدة من عشرات الطائرات المروحية، مزودة بعتاد الإنقاذ اللازمة، من أطواق نجاة وسلالم حبال، ليتم إنقاذ الصيادين، غير أن هذه البساطة كانت تصطدم دائما بتعقيدات إدارية، لا تنتهي، فكما قال لنا الصياد القنيطري: « لقد علمنا فيما بعد، أن أي تحرك لطائرات الدرك، كان يحتاج إلى أمر خاص استثنائي من الجنرال حسني بنسليمان نفسه، كما أن هذا الأخير كان ضروريا أن يخطر الحسن الثاني شخصيا، بأمر إقلاع الطائرة والغرض منه، وهو ما لم يكن ممكنا حتى تصوره ».
بالفعل، فمن يستطيع أن يتصور أن يقوم الجنرال « حسني بنسليمان » بإيقاظ الحسن الثاني من نومه، أو أن « يزعجه » حتى لو كان صاحيا (الحسن الثاني كان كائنا ليليا لا يؤوب إلى فراشه حتى الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا)؟ لذا فقد كان حراس الموانئ يكتفون بـ » معايشة » آخر لحظات حياة طواقم الصيد المنكوبة، عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية، حتى يطوي عباب البحر أجساد الصيادين التعساء، الذين كان من سوء حظهم أنهم وُلدوا في بلاد يحكمها ملك « يتطير » من أي طيران في الجو بدون إذنه.
ثمة ضمن أهم أسباب ذلك « التشدد » في منع الملاحة الجوية، بدون سبب « وجيه » أن الحسن الثاني، عاش لحظات عصيبة، يوم 16 غشت سنة 1972، حينما قنبلت طائرات القاعدة الجوية بمدينة القنيطرة طائرة « البوينغ » الملكية، حينما كان الحسن الثاني عائدا من سفر إلى فرنسا، ولولا سرعة بديهة الربان « القباج » لكان الحسن الثاني قد فارق الحياة منذ ذلك الحين، غير أن من بين النتائج « الوخيمة » لذلك، أن الملاحة الجوية، ظلت ممنوعة منذئذ، لأي غرض مهما كان مستعجلا، كأن يتعلق بإنقاذ أرواح بضعة صيادين كادحين، لقد كان ذلك أمرا مستحيلا، باعتبار حساسية موضوع إقلاع الطائرات بدون إذن من الحسن الثاني.
يوم قال الحسن الثاني لـ « محمد المديوري »: « الفلاح الذي باغتني قتلني »!
كانت المناسبة تدشين سد « الحسن الأول » أو « تاشواريت » بالتعبير الأمازيغي لأهل المنطقة حيث يقع السد، في منطقة جبلية قريبة من مدينة « أزيلال ».. والزمن كان إحدى سنوات منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، الاستعدادات الأمنية والبروتوكولية كانت على أشدها، كيف لا والحسن الثاني إلى جانب الرئيس الفرنسي الاشتراكي « فرانسوا ميتيران » كانا سيقومان معا بعملية التدشين البروتوكولية.. كان الموكب المشهود يسير الهوينى، فوق الزرابي التي حشدها مقدمو وقياد دواوير المنطقة، وفجأة « انفلت » أحد الفلاحين من بين الحشد، مُخترقا كل « الأسوار » الأمنية والبشرية، قوامها رجال الأمن والدرك والقوات المساعدة، فضلا عن رجال الحرس الخاص، الذين كانوا متيقظين تحت أنظار « القط » محمد المديوري.. وبطبيعة الحال تسنى لهؤلاء الأخيرين أن يحولوا بين الرجل والحسن الثاني، لكن بعدما كان هذا الأخير قد اعتقد في لحظة مرت كالبرق، أنه إزاء عملية اغتيال انتحارية، ذلك أنه لم يعد يفصله عن « قاتله » المفترض سوى بضعة أمتار قليلة، كانت « كافية » ليتم القدر المحتوم.. وتبين بعد التحقيق مع مشروع « القاتل » أنه ليس سوى فلاحا بسيطا من الجوار يحمل رسالة مطلبية كان يريد تسليمها « يدا بيد » إلى الملك، غير أنه لم يُفلح في ذلك بطبيعة الحال، وبينما كان الحسن الثاني غارقا في « ذهوله » من فُجائية اللحظة، رمق « ميتران » المشهد بعينين مشدوهتين، سيما بعدما لاحظ الجلبة الكبيرة التي أحدثها الحُراس الشخصيون للحسن الثاني، وأفراد الأمن.
أحد المصادر الذي عاين المشهد نقل إلينا أن الحسن الثاني توجه حينها غاضبا لرئيس حرسه الحاج « المديوري » قائلا: « من تلك المسافة إنني ميت ».. مما جعل « المديوري » يصب جام غضبه على مرؤوسيه، حيث أرسل بعضهم لإعادة « التكوين » في معهد الشرطة بالقنيطرة.
يوم أمر الحسن الثاني بإقفال بئر في إفران لأسباب أمنية
الواقعة التي سننقلها هنا بتفاصيلها الدالة، رواها لنا أحد الموظفين السابقين في القصر الملكي بمدينة إفران، وفي تفاصيلها أن الحسن الثاني كان كثيرا ما يتردد على المدينة الأطلسية المذكورة، حيث كان يحلو له مُمارسة هواية صيد سمك « الترويت ».. إذ أُحدثت من أجل ذلك، مصايد خاصة، عبارة عن بحيرات صغيرة، تسهل على الملك عملية الاصطياد، أي أن لا يُخرج الصنارة خاوية أبدا.. وحدث أن الحسن الثاني خرج يوما من قصر « إفران » وحيدا، لمعرفته أن المساحة الشاسعة المحيطة بالقصر محروسة جيدا، ليس فقط بعشرات رجال الأمن، في الأوقات العادية، والذين يتضاعف عددهم حينما تُعتمد حالة الطوارئ عند إقامته بقصر « إفران ».. (ليس لذلك السبب فحسب) بل لوجود سياج عال من الأسلاك الشائكة، تحول بين القصر، وما جاوره على مدى قُطر دائري شاسع، وفي لحظة ما، يقول مصدرنا المذكور، وجد الحسن الثاني نفسه فجأة وجها لوجه مع امرأة من يا أيها الناس، تحمل عبوات (بيدوات) من ذلك النوع الذي يستخدمه بسطاء الناس في القرى لجلب الماء من مصادر طبيعية، جفل الحسن الثاني، عند رؤية المرأة، غير أنه لم ينبس ببنت شفة، وقفل راجعا إلى القصر الذي كان قد ابتعد عنه ببضعة مئات من الأمتار.. وهناك استشاط غضبا على المكلفين بالحراسة، وطلب بإنجاز تقرير على الفور، لمعرفة سبب « مُصادفته » المرأة القروية صاحبة « البيدوات » وعما قد يكون جاء بها إلى هناك.. وفي ساعات قليلة كان التفسير بين يديه، وكان كالتالي: إن مصادر المياه المعتادة، بالنسبة لبعض القرويين القاطنين في الجوار، كانت قد جفت بفعل شح السماء في تلك السنة، مما جعل بعض النساء والأطفال المكلفين بجلب المياه لبيوتهم « يُغامرون » بالتوغل أكثر صوب المنطقة « المحرمة » القريبة من القصر الملكي، وبالتحديد حيث كانت عين ماء ما زالت تمنح من فيض مياهها.
وحسب المصدر نفسه فإن الحسن الثاني أمر على الفور أن يتم إغلاق تلك العين « القريبة » من قصره، حتى لا يستمر القرويون في « الاقتراب » من محيط مُمارسة هوايته المفضلة في إفران، أي صيد سمك « الترويت » في مصايدها المُعدة بعناية.
ممنوع حمل المسدسات في حضرة الملك
ليس من شك، أن الحسن الثاني، ندم كثيرا حينما كان يتذكر، طيلة السنوات التي أعقبت المحاولتين الانقلابيتين العسكريتين، لأنه كان يترك بعض كبار ضباطه العسكريين يتمنطقون في حضرته، بمسدساتهم المتنوعة، غير أنه لم يكن لينسى واحدة من تلك اللحظات « العصيبة » التي كان خلالها مُجتمعا، مع بعض وزراء حكومته في أحد أيام أواخر سنوات عقد الستينيات من القرن الماضي، وبالتحديد حين نشبت خلافات بين الجنرال محمد أوفقير، وبعض الوزراء بشأن إخلاء أراضي فلاحية خصبة، بمنطقة بني ملال، من سكانها القرويين البسطاء، ليسطو عليها بعض الوزراء وكبار شخصيات الدولة، حيث كان المتضررون قد اتصلوا بالجنرال « أوفقير » مستنجدين به، فما كان من هذا الأخير الذي كان شديد الاعتداد بنفسه، وعلى عداوة مع وزراء كثيرين، حيث كان ينظر إليهم باحتقار مشوب بالاستعلاء.. (فما كان من أوفقير) إلا أن ذهب بنفسه إلى عين المكان وهو يسوق سيارته بسرعة جنونية، وعمل على إيقاف إجراءات إخلاء الأراضي الفلاحية من قروييها، وهي العملية التي كان يشرف عليها آنذاك عامل مدينة بني ملال نزولا عند رغبة الوزراء، والنتيجة أن خبر ذلك النزاع بلغ إلى الحسن الثاني، وبالتالي ذلك الاجتماع الذي كان بين هذا الأخير وبعض وزراء حكومته، إلى جانب الجنرال « أوفقير » وحسب التفاصيل التي نقلها الصحافي الفرنسي « ستيفان سميت » في كتابه: « أوفقير قدر مغربي » فإن الاجتماع المذكور كان عاصفا، بين الطرفين، فمن جهة كان الحسن الثاني لا يُريد « حرمان » بعض وزرائه من الضيعات التي أرادوها، ما دام ذلك يضمن له ولاءهم، كما لم يكن يريد أن يخسر مخدومية جنرال قوي في نظامه من طراز محمد أوفقير، وفي لحظة عاصفة، استل « أوفقير » مسدسه الشخصي ووضعه على طاولة الاجتماع قائلا بهدوء وهو ينظر إلى الحسن الثاني: أنا مستعد لإطلاق رصاصة على رأسي إذا ما كان هناك أدنى شك في إخلاصي.. وبالنظر إلى ما قام به « أوفقير » فيما بعد ببضع سنوات، من دور محوري في الإعداد للانقلابين العسكريين، فقد كان من السهل عليه « عمليا » أن يصوب مسدسه اتجاه الحسن الثاني ثم يطلق عليه الرصاص فيُرديه قتيلا.. ما حدث حينها حسب التفاصيل التي تضمنها الكتاب المذكور، هو أن الحسن الثاني طيب خاطر جنراله القوي، من خلال إرجاء عملية استيلاء الوزراء على ضيعات الفلاحين.. غير أن الحسن الثاني لم ينس أبدا تلك اللحظة، عقب الانقلابين العسكريين، لذا فقد صدرت الأوامر الصارمة، إلى أفراد الحرس الخاص برئاسة الحاج المديوري، بألا يحمل أي شخص مهما كانت رتبته العسكرية أو الأمنية، سلاحا بذخيرة حية أو ميتة، في حضرة الحسن الثاني. وهو الأمر الذي استمر تطبيقه بـ « حذافيره » طوال عقود وسنين حكم الحسن الثاني.
الملك في السينما وإلى جانبه مسدسه
ولا يسبح خوفا من الموت وهو بـ » المايوه »
من بين التفاصيل التي « تسربت » عن الحياة الخاصة للحسن الثاني، أنه كان في بعض الليالي، ينتقل رفقة نساء حريمه، لمشاهدة أحد أفلام رعاة البقر أو الرعب أو البوليسية، وذلك بعدما كان يحرص على وضع مسدسه إلى جانبه، فليس من شك، بالنسبة للذين نقلوا هذه التفاصيل أن الحسن الثاني كان يخشى أن يُباغته انقلاب على نظامه، فيغشى الانقلابيون عليه غرفه الخاصة، بعدما يكونوا قد تخطوا أسوار القصر العالية السميكة، ثم يصلون إليه حيث هو في صالة العرض السينمائي بالقصر، بغرض تصفيته، لذا كان حريصا على أن يكون مسدسه بجانبه في كل مرة يستغرق خلالها في مشاهدة أحد أفلام المغامرات من الدرجة الثانية، التي كان يُقبل عليها بنهم كبير.
ثمة أيضا من التفاصيل بهذا الصدد، ما يتعلق بواحدة من هواياته المُفضلة، وما أكثرها، هي السباحة، فبالرغم من أنه كان يتوفر على مسبح كبير بالقصر مفتوح على السماء، عامر بمياه عذبة مُعالجة طبيا، إلا أنه توقف عن السباحة فيه منذ بداية سنوات عقد الثمانينيات، وذلك مُباشرة بعد « موت » الجنرال « أحمد الدليمي » الرجل الثاني في النظام بعد « مقتل » الجنرال « محمد أوفقير ». ظل الحسن الثاني منذ ذلك الحين مسكونا بهاجس انقلاب عسكري ضده، وبالتالي تجنبه السباحة في المسبح الرائع بقصر الرباط، مخافة أن يفاجئه الإنقلابيون وهو في وضعية غير « لائقة » مرتديا فحسب « المايوه » دون أية وسيلة دفاع عن النفس.
كيف أصبح الحسن الثاني كائنا « ليليا »؟
لم يكن الحسن الثاني شخصا عاديا، فقد كان ملكا حكم بلادا تضاعف سكانها خلال فترة حكمه، ثلاث مرات، حتى أصبحوا زهاء ثلاثين مليون نسمة، ومثل هذا العدد يزيد من التناقضات العصية على « الضبط ».. لذا فقد كان « طبيعيا » ألا يتوفر على إيقاع حياة يومية عادية، بل كانت على قدر كبير من الاضطراب والإثارة. ومن ذلك مثلا أنه « أصر » على أن يتوفر على مظاهر حياة خاصة منتمية لعصر آخر قديم، وحسب بعض الذين اقتربوا منه كثيرا أو قليلا، فإن الحسن الثاني تغير بشكل مذهل، عقب وقوع الانقلابين العسكريين المتتابعين، كيف ذلك؟
من التفاصيل المتوفرة بهذا الصدد أن الحسن الثاني كان ينام حينما يشرع أول أفراد شعبه في الاستيقاظ والدَبِّ على الأرض، ويتناول غذاءه – فيما ندر – في بداية المساء، ويقضي سحابة يومه تقريبا في ملعب الغولف، أو « مرفرفا » حسب تعبير أحد الكتاب الفرنسيين، بين نساء حريمه، ومستشاريه، ليتناول طعام العشاء في منتصف الليل، ثم لا ينام حتى الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا.
السبب في هذا الاستعمال الغريب للزمن، يعزوه مُقربوه المذكورون إلى أن الرجل – أي الحسن الثاني – كان مسكونا بهواجس أمنه الشخصي وأمن أفراد أسرته، لذا كان يعتقد أن الأنباء السيئة تُدبر « مؤامراتها » بليل، وبالتالي إن بقاءه مستيقظا، سيجعله ملما بها قبل فوات الأوان، غير أنه في خضم هذه « الفوبيا » الأمنية، كان استعمال الزمن المضطرب للحسن الثاني، يخلق إحراجا كبيرا للمحيطين به، كما لضيوفه، من كبار رجالات الدولة في العالم، ولا بأس أن نروي في هذا الصدد بعض التفاصيل المُوثقة، التي لا تخلو من طرافة.
لقد كان الحسن الثاني كثيرا ما يمنح الضوء الأخضر لمدير بروتوكولاته الجنرال « أحمد العلوي » لاستقبال شخصيات عديدة، كان بينها رؤساء وملوك وكبار الدبلوماسيين ورجالات ونساء الإعلام، وأشهر الأكاديميين، عبر العالم، غير أنه لم يكن يلتزم بالمواعيد المضروبة، بل يلتقي بالشخصية المعنية بالموعد، في الوقت الذي كان يحلو له. وهو ما استحق عليه لقب « الملك الأقل لباقة في العالم » من طرف الصحافة الأنكَلوساكسونية، وذلك بعدما جعل الحسن الثاني ملكة بريطانيا « إليزابيت » تنتظره ساعة كاملة، خلال أحد أيام زيارتها الرسمية للمغرب، إلى درجة أن هناك مَن اعتبر أن الحسن الثاني كان يتعمد ذلك، لأنه كان يجد فيه متعة كبيرة. ومهما يكن من أمر، وحسب التفاصيل المتوفرة، فإن مواعيد الحسن الثاني كانت تتأخر لأسباب عديدة، منها اعتبار أمنه الشخصي، حيث يطول الإعداد له من طرف خدامه « المتحمسين » وكذلك حسب مزاجه، وهو ما كان يثير ضجر ضيوفه الأجانب، وكان من بينهم الرئيس الفرنسي السابق « فرانسوا ميتيران » وملك إسبانيا « خوان كارلوس ».
كيف تغير الحسن الثاني؟
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن التغيير الكبير الذي طرأ على وتيرة الحياة اليومية للحسن الثاني، ارتبط بواقعتي المحاولتين الانقلابيتين العسكريتين المُتتابعتين (1971- 1972). فقبل ذلك كان الحسن الثاني يعيش نمط حياة شبه عادية، على المستوى الزمني، حيث كان يصل إلى مكتبه في التاسعة صباحا، بعدما يكون قد استيقظ مبكرا، ليتناول غذاءه في منتصف النهار، قبل أن يعود إلى مهامه، كما كان يمارس رياضة السباحة بانتظام، ويلعب كرة المضرب، والغولف، فضلا عن القنص، حيث كان بإمكانه التصويب بالبندقية، ليسقط زهاء مائة طائر في ظرف ساعة واحدة.
كل ذلك تغير عقب الظرفية العصيبة المذكورة، صحيح لقد احتفظ الحسن الثاني بمظهر الواثق من نفسه، إزاء العالم الخارجي، سيما في جلسات ندواته الصحافية، التي كان يحب مُجادلاتها مع رجال ونساء الصحافة الغربية، وبالأخص منهم الفرنسيون، حيث قال في إحداها: « حينما أقوم بجرد لحصيلة حياتي، أجد أن الدَّين أكبر من المديونية، إنني لم أقم سوى بأمور إيجابية، من حواليَّ، فأنا لم أضر أي أحد، وأشعر أني بين ظهراني شعبي مثل سمكة في الماء، حسب تعبير ماو تسي تونغ ».
لم تكن هذه في الواقع سوى كلمات مطلوقة في الهواء، ذلك أن الذين احتكوا بالرجل – أي الحسن الثاني – بشكل يومي، كانوا يعرفون أن تلك الثقة بالنفس كانت ظاهرية فحسب، وأنه على العكس من ذلك، كان ممروضا ممعودا، جراء الخوف من وقوع محاولة انقلابية ثالثة، كما أنه لم ينس أبدا أن أفراد « شعبه الوفي » التزموا الهدوء والسكينة حين وقوع الانقلابين العسكريين، بل وكان بينهم مَن خرجوا، للتعبير عن الابتهاج، كما حدث في مدينة الدار البيضاء، على سبيل المثال، في ظرفية كان فيها مصير العرش الملكي، مُعلقا بخيط رفيع.. لكل ذلك وغيره، من الاعتبارات المُماثلة، ظل الحسن الثاني إنسانا مُؤرقا لا ينام ليله كأغلب الناس، وحذرا على نحو شبه مرضي. صحيح لقد ظلت قواعد البروتوكول مرعية ظاهريا، كما أن جداول المواعيد الملكية بقيت كما كانت، لكن كل الترتيبات بهذا الصدد، كانت تزعزعها، الساعة البيولوجية المضطربة لنوم واستيقاظ الملك، فحتى في أماكن الإقامة التي كان يفضلها عن غيرها، مثل قصري الصخيرات (للمفارقة ففي هذا القصر حدثت المحاولة الانقلابية العسكرية الأولى ضده) أو « بوزنيقة » الذي كان محصورا على نساء حريمه، لم يكن الحسن الثاني يعثر على الراحة الضرورية، لذا فإن النوم لم يكن يُداعب جفنيه، حتى يكون النهار بصدد الطلوع، حيث يكون الإجهاد قد هََدَّهُ، وفي تلك الأثناء تُعلق الحياة داخل القصر، بكاملها في انتظار نيل الحسن الثاني قسطا من النوم، وحينما كان يستيقظ، تكون الشمس قد مالت نحو كبد السماء، وعندها يجعل حياة القصر منقلبة رأسا على عقب، من الناحية المزاجية، وهو ما كان يخلق متاعب لا حصر لها للعاملين على خدمته، من مختلف المراتب والمشارب، ومن الطريف أن نذكر بصدد أجندة الحياة اليومية الغريبة للحسن الثاني، أنه كثيرا ما كان يطلب من وزراء حكومته الحضور، في وقت يستعد فيه هؤلاء للذهاب إلى فراش النوم.
سفريات وجولات الحسن الثاني: احتياطات أمنية لا تنتهي
لا يختلف إثنان على أن تنقلات الحسن الثاني، كانت عبارة عن سلسلة إجراءات أمنية مشددة، قبل أي شيء آخر، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حينما كان ينتقل إلى إحدى المناطق المغربية، البعيدة أو القريبة، من العاصمة، على متن سيارة مصفحة كبيرة، من نوع « ليموزين » أو « ميرسيديس » مُعدة بوسائل الراحة الأكثر فخامة، منها طاولة لعب الورق مع مرافقيه.. (حينما كان يفعل ذلك) فإن صفوف رجال الأمن تحيط بجنبات الشوارع والطرق التي يمر منها، وهم يديرون ظهورهم للموكب الملكي، ووجوههم إلى الحشود، ويا ويل رجل الأمن الذي يُخالف هذه القاعدة الأمنية الصارمة.
وفي الحالات التي كان الحسن الثاني « يضطر » إلى تلقي « حمامات ازدحام » حسب العبارة الفرنسية، فإنه كان يفعل ذلك، بعد اتخاذ كافة الاحتياطات الأمنية، من بينها، ارتداء سترة واقية من الرصاص، ناهيك عن أفراد أجهزة الأمن السرية والعلنية، الذين يندسون بشكل سافر وسط الناس، لالتقاط كل « ذبذبات » الحشود.
وعلى مستوى آخر، فإن حي « تواركَة » الذي يوجد به القصر الملكي، أي الإقامة الرسمية للحسن الثاني وأسرته، يتم فصله وعزله تماما، عن باقي أطراف العاصمة الرباط، ما بين الساعة الثامنة والنصف مساء والسادسة من صباح اليوم الموالي، أما أبواب القصر الأرزية الضخمة، فيتم إقفالها عند الساعة الثامنة مساء، ويكون العمل حينها بإجراءات أمن مُشددة، لم يكن يُستثنى منها أحد، بما في ذلك أبناء الحسن الثاني الأمراء والأميرات، الذين كانوا كثيرا ما يعمدون إلى استخدام الكثير من الحيل للتسلل خارج أسوار القصر ليلا.
أحذية رياضية تحت أسرة غرف النوم بالقصر
لم يكن يتسنى للذين عاشوا جوار الحسن الثاني أن « يهنأوا » بأجواء حياة طيبة.. صحيح، لقد كانت وسائل العيش المادية، متوفرة إلى مستوى أقرب إلى الخيال منه للواقع، لكن « الثمن » كان باهظا، يُدفع من أعصاب متوترة وقلق مُقيم، جراء الأجواء المكهربة في القصر، والاحتياطات الكبيرة، الدقيقة، لاعتبارات أمنية، بشكل يفوق الاحتمال، فعلى سبيل المثال، فإن أجواء الخوف والحذر، كانت شديدة الوطأة على عشرات النساء من حريم الحسن الثاني، فحينما كان هذا الأخير، يقرر اصطحابهن معه في إحدى سفرياته إلى الخارج، فإنه كان يتم ختم حقائبهن الكبيرة واليدوية في المطار، ويكون ممنوعا عليهن فتحها، مهما كان الظرف.
نفس أجواء الخوف والقلق والتوتر، كانت تنسحب على أفراد أسرة الحسن الثاني، وثمة بهذا الصدد واقعة طريفة، حدثت حينما فكر ابن أخ الحسن الثاني الأمير هشام، في منح هدية لعمه الملك، حيث عمد إلى اقتناء ثلاث بندقيات صيد حديثة الصنع، لم يكن قد تم تسويقها بعد، حرص على أن يتم نقش اسم الحسن الثاني عليها، لمعرفته أن عمه الملك، يحب هذا النوع من العتاد، وبينما كان الأمير هشام ينتظر تشكرات مؤثرة من الحسن الثاني، تلقى منه تقريعا شديدا لا ينتهي، وذلك بعدما عمدت مصلحة « مخابرات » القصر برئاسة الحاج محمد المديوري إلى إخطار الحسن الثاني، بأن ابن أخيه قد استطاع إدخال أسلحة من الخارج، ليس فقط إلى البلاد، بل أتى بها حتى قعر القصر.
ومن نفس الأجواء المتوترة، التي كان يرزح تحتها أفراد أسرة الحسن الثاني، بصدد الاعتبارات الأمنية المتشددة، كان الاعتقاد جازما لدى الجميع داخل القصر، سيما النساء، أن انقلابا سيحدث في أية لحظة، ومن ثم الخوف الشديد من مصير مأساوي، على غرار ما حدث يوم عاشر يوليوز من سنة 1971، الفكرة المحورية عن هذه « الفوبيا » المُقيمة لدى سكان القصر كانت هي: « هناك حيث فشل الجنرال أوفقير يمكن أن ينجح عسكريون آخرون ». ومن الطريف أن نذكر أيضا في هذا الصدد، أنه بالرغم من عادة المشي على أرضية ساحات ومرافق القصر بأقدام حافية، إلا أن الكثير من نساء حريم الحسن الثاني، سيما الفتيات الصغيرات منهن، كُنَّ يُخفين أحذية رياضية، تحت أسرتهن قبل أن يخلدن إلى النوم، ليظللن دائما على استعداد لحالات الطوارئ، وعلى أهبة الهرب حينما يقع ما يخشونه، لقد كن يعتقدن جازمات أن انقلابيي العسكر لن يرحمنهن، خلال الانقلاب، كما كانت هناك بينهن مَن يستشرن بانتظام عرافين وعرافات مشهورين، لقراءة طالعهن بصدد نهاية مأساوية مُحتملة بقدر كبير.
يوم عَضَّتْ امرأة ليبية يد حارس الحسن الثاني
حينما تسلم الحاج « محمد المديوري » رسميا منصب رئاسة الحرس الخاص للملك الحسن الثاني، عمد إلى الاستحواذ على مهمة « مسير » رياضي، وغرق في مسؤوليات « تحديث » جهاز الحراس الخاصين للملك، وللأميرات والأمراء، وفي سبيل ذلك لجأ إلى تقنية الاستقطاب للكوادر المؤهلة، من بين شباب مدارس الشرطة، والأندية الرياضية، سيما المشتغلة منها بفنون القتال، وإلى هذه الأخيرة يُعزى مصدر اكتشاف « مواهب » من قبيل « مهراد » و »فكري » و »جعايدي » الثلاثي الذي يشكل حاليا حجر الزاوية في الحراسة الخاصة للملك محمد السادس.
ومن الوقائع التي حدثت خلال رئاسة « الحاج المديوري » للحرس الخاص للحسن الثاني،
أنه خلال زيارة رسمية قام بها الحسن الثاني إلى الجماهيرية الليبية، بدعوة من رئيسها العقيد « معمر القذافي »، اضطرب أفراد فرقة الحراسة الشخصية للحسن الثاني ورئيسهم « المديوري » وذلك جراء الازدحام الشديد، الذي أحاط بالرئيس الليبي وضيفه الملك الحسن الثاني، وبينما بدا الأول سعيدا بذلك الاحتشاد الفوضوي من حوله، علت علامات الدهشة والخوف محيا الحسن الثاني، وهو ما جعل أفراد حرسه الخاص يقلقون ويضطربون، وحينها عمد رجال الحاج المديوري إلى استخدام تقنية « السمطة » وذلك بشد كل فرد منهم بيد زميله، لتشكيل سلسلة بشرية منيعة، حوالي الحسن الثاني ومُضيفه العقيد « القذافي » وبعدما لم تكتمل السلسلة المذكورة، تناول أحد أفراد الحرس الملكي يد واحدة من النساء اللواتي يقمن بمهام حراسة الرئيس الليبي، فما كان من المرأة الشديدة البأس، سوى أن عضت بأسنانها بكل ما تملك من قوة يد حارس الحسن الثاني.
عندما انقطع التيار الكهربائي عن القصر واستبد الهلع
حدث ذلك ذات ليلة من أحد أيام منتصف عقد ثمانينيات القرن الماضي، وبالتحديد سنة 1986، حين انقطع التيار الكهربائي جراء عطب تقني، مما جعل العاصمة الرباط، بما في ذلك القصر الملكي، تغوص في ظلام دامس، واستبد الهلع أكثر بين القاطنين وراء أسوار قصر « تواركَة » وهرعوا مهرولين إلى الخارج، مُعتقدين في جزم أن انقلابا عسكريا قد حدث، في حين أنه لا شيء من ذلك كان قد حصل. سيما أن ذكرى « موت » الجنرال القوي « الدليمي » كانت ما تزال طازجة في الأذهان حينها، غير أن تطورات الظرفية الدولية، في تلك الآونة، كانت على نحو من الاضطراب، مما بعت القلق بين سكان القصر، منها مثلا، أن الطائرات الليبية كانت قد قصفت ليبيا، وبالتحديد الثكنة التي كان يُعتقد أن العقيد « معمر القذافي » كان متمترسا فيها، وبالتالي الاحتمال القوي، الذي كانت تعتقد به السلطات الليبية وكان مفاده أن الطائرات الأمريكية التي قصفت بلادهم، عبرت الأجواء المغربية، مما جعل محيط الحسن الثاني، وسكان القصر، يعتقدون أن السلطات الليبية، وعلى رأسها الرئيس « القذافي » كان لديهم هدف ملح يتمثل في الانتقام من القصر « المتواطئ » مع الامبرياليين الأمريكيين، وقد بلغ من شدة هذا الاعتقاد، أن الحسن الثاني عمد حينها إلى زيادة تشديد الحراسة الأمنية حوله.
كما كان هناك أيضا ذلك الخوف من مسألة تضاعف الانقلابات العسكرية، في العديد من البلدان الإفريقية والعربية، التي طوحت بأنظمة ملكية، كان يُعتقد أنها « أبدية ». ففي ظرف زمني لا يتعدى جيلا واحدا، تم القضاء على أربعة أنظمة ملكية، من طرف ضباط جيش شباب، وذلك قبل حدوث انقلاب الجيش الأول ضد الحسن الثاني يوم عاشر يوليوز سنة 1971، كما أن نظامين إمبراطوريين « حليفين » للحسن الثاني، في « إيران » و »إثيوبيا » تمت الإطاحة بهما، من خلال إزاحة « هيلاسلاسي » و »الشاه أحمد رضا بهلوي » وكلاهما كانا صديقين « حميمين » للحسن الثاني، ومن ثم يُمكن بسهولة، فهم الجو النفسي الذي كان مهيمنا على سكان القصر الملكي، حيث كانت الظرفية غير « مواتية » للأنظمة الملكية، سيما أن عددا من الملوك المُطاح بهم، عبر العالم، مثل ملك بلغاريا السابق « سيمون » وأبنائه، وأرملة شاه إيران « فرح ديبة » وابنها « رضا » ووريث عرش مصر الملك « فؤاد » وزوجته، وملك اليونان « قسطنطين » المُطاح به من طرف العسكر، وآخرون كانوا يثقون في أريحية وحسن وفادة الحسن الثاني، الذي استضافهم في المغرب، ومنحهم فيلات أنيقة، أو غرفا في أفخم الفنادق بالعاصمتين الإدارية والاقتصادية، على مدار السنة، ووضع رهن إشارتهم سيارات فخمة مصفحة، بل ومنح بعضهم رواتب شهرية مجزية من ميزانية القصر. وبالتالي كان لدى الحسن الثاني، أكثر من سبب للخوف من مصير بائس، كالذي حل بضيوفه من أباطرة وملوك أكثر من بلد في العالم، حتى لو اقتصر الأمر على انقطاع كهربائي بسبب عُطْلِ في التيار.
كيف نسي الحسن الثاني بسرعة « درس » الانقلابين العسكريين؟
صرح الحسن الثاني، يوم 25 غشت 1972، أي أياما قليلة بعد انقلاب عاشر غشت 1972 لجريدة « لوفيغارو » الفرنسية قائلا: « يجب ألا أمنح من الآن فصاعدا ثقتي لأي كان، إنها صدمة أُلقنها لنفسي أولا من خلال اتخاذي لهذا القرار، غير أن الأمر لا يتعلق بشخصي، بل بملايين الناس الذين أقود مصائرهم، بعد الله، لذا فإن اعتباراتي الشخصية، لا يجب أن تكون أثقل من هذه الالتزامات ».
لم يف الحسن الثاني بهذا التعهد، ونسي الدرس.. كيف ذلك؟ إن الخطأ ذاته الذي كان قد ارتكبه بالاعتماد على الجنرال « أوفقير » كرره مرة أخرى، بنفس السيناريو مع جنرال آخر هو « أحمد الدليمي ».. غير أنه حسب طبيعة النظام الفردي، الذي كرسه الحسن الثاني، هل كان بإمكانه تجنب مسألة وجود رجل سلطة قوي من بعده؟ سيما في بنية سلطة شديدة التركيز، يلعب فيها رجال الأمن والجيش الدور الأساس في استمرارية النظام.. مما يفرض حضورا ومتابعة لصيقين، لشؤون ممارسة السلطة، وهو ما لا يمكن أن يفعله رجل واحد، وفي ذلك كان حتميا أن يصعد نجم الجنرال الدليمي، بعد مقتل أستاذه الجنرال « محمد أوفقير ».. لقد كان الحسن الثاني مُجبرا على منح « الخطوط العريضة » لسياسته، لكنه كان دائما في حاجة ماسة، إلى رجل قوي، يسهر على التنفيذ وفق منظور أمني دقيق، وهو الدور الذي أسنده للجنرال الدليمي، غير أن المأزق الأمني الذي كانت تنطوي عليه هذه الوصفة، تمثل في أن الرجل الثاني في النظام، يصل إلى مرحلة (تماما كما حدثت مع الجنرال « أوفقير » من قبل) يجد فيها الفرصة سانحة، للاستحواذ على مقاليد الأمور، وهو ما حدث فعلا.
وفي لحظات مُعينة، يحدث بين الشخص الذي أراد الاستحواذ على السلطة، والأمر يتعلق بالدليمي، ضمن هذا السياق، وبين الذي أراد الاحتفاظ بالعرش، أي الحسن الثاني، أن يصل المدى إلى الصراع « الصامت/الصاخب ».. وهو ما حدث بالتحديد، بين الملك وجنراله مما انتهى بـ « وفاة » هذا الأخير في حادث سيارة يوم 25 يناير 1983.
« رشاوى » الحسن الثاني إلى كبار رجال الدولة
فهم الحسن الثاني جيدا، بعد سلسلة محاولات انقلابية استهدفته وحكمه، أن عليه شراء « رضا » كبار رجالات الدولة الأمنيين والمدنيين والعسكريين، لذا عمد بدافع هاجس أمنه الشخصي واستمرار نظامه، إلى إغراقهم بالهدايا، ومنحهم مساكن باذخة عبارة عن « فيلات » في أرقى الأحياء السكنية، وضيعات في ملكية الدولة، انتقلت إليها عبر سياسة « المغربة » عقب رحيل الاستعمار الفرنسي، ورخص الصيد في أعالي البحار، واستغلال مقالع الرمال.. إلى غيرها من الامتيازات، في دولة الريع الاقتصادي، أما بالنسبة لكبار بارونات الدولة، ممن لم يتسنَّ لهم، لسبب أو آخر، الاستفادة من « أُعطيات » الحسن الثاني لضمان « ولائهم » وبالتالي أمنه و « سلامة » نظامه، فقد كانت هناك دائما الصناديق المالية العمومية، لتمنح لكبار القوم في الدولة، قروضا مُجزية بلا ضمانات استرداد تقريبا، ناهيك عن باقي وسائل الاغتناء من كل الأنواع، منها أعمال التهريب.. لقد كان كل شيء « صالحا » لهدف واحد: شراء الأمن الشخصي للحسن الثاني، وسد أطماع الطامعين، من المقربين في الاستيلاء على الحكم.
تقارير النساء هي « صمام » الأمن
كان الحسن الثاني يحرص كلما عاد من إحدى سفرياته إلى الخارج، على مُجالسة كل واحدة من حريم القصر رأسا لرأس، والسؤال الوحيد الذي كان يُريد جوابا عنه هو: ماذا حدث في غيابي؟ طبعا لقد كانت لديه أعين رجال الحاج « محمد المديوري » غير أنه كان يحتاج إلى تقارير أكثر « حميمية »، من مثل: بمن اتصلت هاتفيا هذه المحظية أو تلك، خلال فترة غيابه؟ وماذا قالت أخرى عنه؟ وهل كانت تنظر إلى ألبوم صوره الخاصة، الموضوعة رهن إشارة أعين نساء الحريم؟ إلى غيرها من التفاصيل الحميمية، وكانت كثيرا ما تنزل العقوبات على بعض النساء، لا لشيء إلا لوشاية، تم « تركيبها » بناء على روايات بعض قاطنات الحريم، ممن تكون لديهن « صراعات » و خصومات حول مَن تستطيع الظفر ب « حظوة » أفضل لدى الملك، غير أن الحسن الثاني، كان يستخدم تلك التقنية النسائية لـ « ضبط » الأمور الأمنية، في قعر مقرات إقامته، فمن يدري؟ قد تتوفر جزئية معلوماتية « بسيطة » تخرج عفوا من فم محظية « متحمسة » لكنها – أي المعلومة – قد تشي بأمر خطير، مثل إعداد قد يكون قائما على قدم وساق، بين بعض نساء الحريم، وأطراف سياسية أو أمنية خارجية، للإجهاز عليه بطريقة ما، في قلب القصر.
لهذه المخاوف تُعزى تلك الدقة، التي كان يعتمدها الحسن الثاني، في « استنطاق » نساء حريمه واحدة واحدة، حتى « يغربل » رواياتهن لما حدث في غيابه، بأدق التفاصيل. وذلك بطبيعة الحال، بعدما يكون قد « تخلص » من كثير مما « لا نفع » فيه، وبتلك الطريقة كان يستطيع التوفر دائما على مُعطيات « حميمية » لا تكون في متناول « أعين » قط القصر، أي رجال الحاج محمد المديوري.
شرطي الحسن الثاني برتبة وزير
كانت العبارة الوحيدة، التي يُرددها البصري مثل لازمة، هي « هاذ شي ما غاديش يعجب سيدنا ».. وهو ما كان يعبر عن هوس « كبير وزراء » الحسن الثاني بأمر الأمن: المبرر الوحيد الذي جعله « يتسلق » المراتب، من مجرد مفتش شرطة بسيط، أواخر سنوات عقد الستينيات من القرن الماضي، ليصبح وزيرا للداخلية، وهو المنصب الذي استمر فيه لمدة تُقارب الثلاثة عقود، فما السر في ذلك يا تُرى؟
لقد فهم « إدريس البصري » أكثر من أي شخص آخر، من بين الذين عملوا إلى جانب الحسن الثاني، أن هذا الأخير، كان مشغولا بأمر واحد: الأمن والاستقرار، أي أمنه الشخصي، واستقرار النظام الملكي، وقد كرَّس إدريس البصري نفسه لأداء هذا الدور طيلة حياته، لدرجة أنه كان يبيت فيه مكتبه بوزارة الداخلية الليالي الطوال، في حالة تأهب دائم، للجواب على الأسئلة، التي كانت تعن للحسن الثاني في أكثر من ملف، أكثرها وأهمها بطبيعة الحال، كانت تلك التي تتصل بقضايا أمنية. روى أحد الصحافيين، ممن كانوا قد اختاروا « العمل » مع إدريس البصري، إلى جانب فترة « الدوام » في إحدى الجرائد الحزبية، أن إدريس البصري تلقى اتصالا، في وقت ما بعد منتصف الليل، من الحسن الثاني، في شأن إحدى الجرائد التي كانت قد أصدرتها للتو، جماعة إسلامية في إحدى سنوات منتصف عقد الثمانينيات، وما هي إلا دقائق حتى كان البصري قد جمع كل المعطيات، عن الجريدة المذكورة، بدءا بمن يكتب فيها ويرقنها والمطبعة التي تطبعها، والكثير من التفاصيل المملة، التي قد تكون بلا جدوى. وربما لهذا السبب كان الحسن الثاني « يندهش » من كل تلك القدرة على العمل « الأمني » لدى « كبير » وزرائه، لذا لم يتورع الحسن الثاني عن القول له يوما: « شوف آ سي دريس نتا غادي تبقى ديما بوليسي ».
اعتمد الحسن الثاني على « خدمات » إدريس البصري، في مرحلة حاسمة وحرجة من مساره على رأس نظام الحكم، وذلك بالتحديد في الحقبة الموالية، لما بعد المُحاولتين الانقلابيتين، حيث كان الحسن الثاني، قد احتاج إلى الشخص القادر على « تفجير » كل المصالح الاستخباراتية من الداخل، وجعلها في خدمة تصور واحد، هو الأمن الشخصي للملك، وهي المهمة التي أفلح فيها إدريس البصري، وتحول إلى رجل المعلومة الأمنية الوحيد، بعدما استطاع أن يمحور عمل كل مصالح الأمن السرية والعلنية، حول أدائه، وبالتالي كانت الصورة الشهيرة عنه وشبه الدائمة، تظهره متأبطا ملفاته، ومتجها إلى ملعب الغولف بالقصر أو في أي مكان آخر، حيث يكون الملك، ليسلمه آخر التقارير الأمنية.
لقد استطاع « إدريس البصري » أن يجعل كل شيء خاضعا للمنطق الأمني، في البلاد، ذلك لأنه كان يعرف أن « جدوى » بقائه في منصب « كبير وزراء » الحسن الثاني رهين بمدى أداء دور الشرطي الأول، في هرم دولة قائمة على هاجس الأمن الشخصي للملك، واستقرار النظام الملكي.
م. حيران