في البداية أسارع (وليس من التسرع، بالنظر إلى الهامش الزمني المُريح نسبيا الذي يفصلنا عن الحدث) إلى القول أن الإشارة بأصابع الإتهام لجهة محددة، سواء كانت أطرافا مخابراتية داخلية أو خارجية، أو جماعات أصولية متطرفة، بصدد تفجير مراكش الوحشي الإجرامي، ليس من عمل العقل الذي يزن الأمور قبل وضعها في مكانها المناسب، كيف؟
لا نتوفر لحد الآن سوى على نُتف معطيات مصادرها مُتباينة، هناك من جانب نتائج التحقيقات الأولية للسلطات الأمنية « المرفودة » بالخبرة الأجنبية (الفرنسية والإسبانية) التي « منحتنا » متهما ببروفايل « مهزوز » المستفاد منه أن الأمر يتعلق بهاوي إرهاب أقدم على ذلك العمل الإرهابي الممعن في الوحشية، لا لشىء سوى ليُقنع أخطبوط تنظيم القاعدة أنه آهل للإنتساب إليه، وهي « رواية » ولو أسفر عنها تحقيق متخصص تحتاج إلى « تفريغ » ذهني شاق لابتلاعها.. إذ كيف يستقيم إلباس حيثيات تفجير إرهابي « محترف » جبة الهواية؟.. وأولى الفرضيات القوية ضمن هذا السياق، أنه لا محيد عن خلفية « محترفة » لتنفيذ هكذا تفجير برسائل متعددة لأكثر من جهة داخلية وخارجية، فهل ذهبت التحقيقات مع المتهم المُعلن إلى هكذا أبعاد جدية، أم تم الإقتصار على مُعطيات بروفايل الإرهابي الهاوي « المُريحة »؟
المصادر الأخرى تمثلت في تنظيم القاعدة وفرعه ببلاد المغرب الإسلامي، اللذان نفيا صلتهما بتفجير مقهى « أركَانة » وهذا مُعطى في غاية الأهمية، بالنظر إلى نُدرة مُعطيات النفي من المصدرين المذكورين في مثل هكذا مُناسبات، وهو ما يشي بالخطورة المُستوعبة من لدنهما لالتصاق تهمة من هذا القبيل بهما، وخدمتها لأطراف معينة داخلية وخارجية.
لا محيد إذن عن القول، أن هوية رب جريمة تفجير مراكش ستظل مجهولة حتى حين، وربما إلى لأبد، وهي اليافطة نفسها، للغرابة، التي وُضعت على تفجيرات 16 ماي 2003، وللتذكير فإنه بعد مُضي ثمان سنوات بالتمام والكمال، لم يتم إعلان نتائج تحقيقات تفجيرات الدار البيضاء، ولا تحديد الجهة المسؤولة عنها، بالمُقابل فإن تداعياتها الحقوقية والقضائية والأمنية شكلت منعطفا حاسما ل « ترتيب » مغرب ما بعدها (تفجيرات 16 ماي) في شتى المجالات الأساسية، حيث اتُّخذت ذريعة لوضع القبضة الأمنية وتشديدها على البلاد والعباد، بواسطة قانون الإرهاب.
و « للمصافة » العجيبة الغريبة، فإن حسابات 16 ماي كانت قد أعقبت أيضا نقاشا حول الحريات العامة والدمقرطة، نذكر منها مناقشة مشروع قانون جديد للصحافة، وحركية برلمانية وصلت إلى حد تلويح حزب العدالة والتنمية بنزع الثقة عن الحكومة سنة 2002.. لينحدر مؤشر هذه الحركية إلى نقطة الصفر مع تفجيرات 16 ماي.. وبنفس « المصادفة » نجد أن النقاش العمومي حول الإصلاح السياسي بالبلاد، ما قبل تفجيرات مقهى « أركَانة » في تزامن مع الزلزال الثوري الإقليمي، اتخذ أبعادا غير مُتحكم فيها (وهذه خصيصة نادرة في بلاد المخزن والغاشي) إذ فجأة بدأ الحديث عن الإختصاصات الدستورية للملك والملكية البرلمانية، ليس في بضعة صحف مستقلة، بل في قنوات التلفزة العمومية، وبأسرع من هذه الفجائية « نزلت » صاعقة تفجيرات مقهى « أركَانة » لتُعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ليُصار إلى « نقاش » آخر حول الإرهاب وتداعياته والسبل الأمنية لمواجهته، و « دعم » جهود جهاز المخابرات « ديستي » أساسا، كما حدث ذلك مثلا في آخر حلقة من برنامج « حوار » بالقناة الأولى.. إلخ.
لا يُمكن أن نمر مر الكرام على نقطة واحدة إيجابية، في تعاطي الدولة المخزنية مع حدث تفجير مقهى « أركَانة » وتمثلت في عدم ارتكاب غلطة اليد الأمنية الثقيلة، كما وقع بعد تفجيرات 16 ماي، فحسب المُعطيات المتوفرة لم يتم اعتقال زهاء ثلاثة آلاف من « المشتبه » فيهم، وحشرهم في مُعتقلات سرية رهيبة مثل ذاك الذي في مدينة « تمارة » والتنكيل بهم كما في عهود الوحشية البشرية والحيوانية الغابرة. بل تم الإقتصار على التحقيق مع متهمين يُعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، أُطلق سراحهم فيما بعد، لقد تعلمت الدولة المخزنية من خطأ قاتل وَسَمَ الدولة والمجتمع إلى الأبد، ويا لفداحة ثمن مثل هكذا تعلم.
غابت إذن الحسابات الأمنية ما بعد تفجير مقهى « أركَانة » وحضرت بشكل سافر حسابات السياسة.. ومنها (الحسابات) فرملة النزوعات الإصلاحية والتقليل من شأنها، مُقابل إلحاح على الجوانب المرتبطة بالتفجير المذكور، وكأننا بالدولة المخزنية تريد أن تضع أولوياتها المخزنية الضيقة وليس أولويات الإصلاح المفتوحة. وبالتالي هذه الفرضية: هل يتعلق الأمر بحدث مُفجع ومؤلم، مما يصح فيه المثل « ورب ضارة نافعة » اتخذته الدولة المخزنية وسيلة لإبطاء عجلة مطالب التغيير إلى حين؟ أي حين؟ إلى أن « تبرد » مراجل الثورة العربية، وبالتالي يتسنى ترتيب البيت حسب المُشتهى فرديا وليس المطلوب مُجتمعيا.
إذا تأكد ذلك من خلال نتائج الأجندات المطروحة سياسيا (تعديل الدستور أساسا) فلن نبرح ذات الملعب الضيق الذي يميز الأنظمة الشمولية: ربح هامش من الوقت مهما كان ثمنه ونسبيته درءا لحدث جلل: الثورة التي تقلب كل شىء رأسا على عقب.
مصطفى حيران