الديكتاتور العقيد القذافي تُطارده بنادق الثوار وطائرات تحالف النيتو، بينما يختفي هو في « جحر » باب العزيزية، مثل أي فأر خرافي بشع.. وليس له في نهاية المطاف القريب، سوى شرف الموت منتحرا، أو بهذلة الإعتقال فالمحاكمة..
أما حاكم اليمن الأوحد علي عبد الله (غير) صالح فيتردد، الفينة بعد الفينة، بين ترك منصب الرئاسة أو الإحتفاظ به.. ومَنْ يستطيع ترك ثدي السلطة الحلو والثر طوعا، بعدما ظل في فمه لثلاثة عقود من الزمن، بلا حسيب ولا رقيب؟..
بشار الأسد الذي ورث سلطة مطلقة عن أبيه حافظ الأسد يُواجه انتفاضات المدن السورية، وقد عيل صبر محكوميه من بطش آل العلويين البعثيين.. في الأردن تسير الأمور على نفس إيقاع الإحتجاج، والأفق تحييد حكم فاسد نفذ كل الصبر على تفاهاته القاتلة.. والأكيد أن باقي الملوك والرؤساء العرب بللوا لحاهم في انتظار أن يمر عليهم حلاق وسخ الديكتاتورية والطغيان، إنهم يعرفون أنها مسألة وقت ليس إلاَّ. فقد أنذرتهم تقارير مؤسسات دولية أن الحول قد لا ينقضي عليهم، حتى يجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها، مطرودين من نعيم جنات « الخُلد » في الحكم، هاربين إلى أحد أصقاع الدنيا مُلاحقين بملفات تجاوزاتهم وسرقاتهم، وباقي الجرائم التي لا تتوانى أجهزة القضاء، المستقلة حقا وليس ادعاء، عن مُلاحقة مُقترفيها، وإنزال أقصى العقوبات بهم (لقد رأينا مؤخرا كيف توبع وحُكم على الرئيس الإسرائيلي الأسبق « موشي كاتساف » بالسجن عامين في جريمة اغتصاب امرأة فكيف بالحكام العرب اللذين اغتصبوا مئات الملايين من شعوبهم؟) حتى يكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم.
في المغرب يقول الملك وحلقة المتنفذين والمنتفعين من حوله، أن « المغرب لا يُشبه البلدان العربية التي تعرف انتفاضات صريحة ضد حُكامها مُعمدة بهذه الكلمة الصارمة الباترة: ارحل ».. مُحوقلين في غيرما وجل أن الملكية في المغرب ضاربة في قلوب المغاربة أبا عن جد (ربما يقصدون أن ذلك من أثر الخوف الشديد) وبالتالي فلن يصل الأمر إلى حد طرد الملك والنظام الملكي من المغرب.
نفس الشىء تقريبا، قاله الرئيس حسني مُبارك وهو يُعاين طرد زميله الرئيس التونسي « زين العابدين بنعلي » من الحكم وخروجه هاربا من بلاده كأي مجرم جبان. ومع ذلك لم ينقض شهر حتى وجد نفسه مُواجها بنفس المصير. كما أن القذافي قال نفس الشىء عن مبارك وبنعلي.. إنه وضع مأساوي وساخر في ذات الآن، يشبه ذاك الذي لإمرء يُعاين انتشار طاعون مرض مُعد ويظل حتى آخر لحظة من حالة عدم الإصابة يردد: الجميع سيُصابون بالطاعون ما عدا أنا.. وإذا سألته: ما الذي يجعلك تجزم بهذا؟ يقول لك: أنا متأكد من ذلك.
الملك محمد السادس « متأكد » أنه غير معني بما يحدث من حوله من زلازل تهز بعنف أركان كراسي الحكم والعروش، هو « متأكد » أن الشعب المغربي يُحبه حبا جما، وما خروج الآلاف ثم الملايين رافعين عقيراهم وسواعدهم منددين بالفساد والطغيان، سوى مؤامرات خارجية حاقدة تصطاد في المياه العكرة.. وفق هذا المنطق « الواثق » جاء خطاب تاسع مارس متعاليا على المحكومين، باعتبارهم ما زالوا في حاجة إلى مَن يُفصِّلُ لهم الدستور على مقاسات وعيهم كما يُفصِّل الأب السروال لإبنه. وليس أن « يُفصلوا » هم أنفسهم مقاس شكل ومضمون الحكم، من خلال هيئة تأسيسية منتخبة، بعيدا عن وصاية حاكم مُطلق « مُقدس » يفعل بمصائرهم وأرزاقهم ما يشاء.
لن يفهم أبدا حاكم مُطلق مثل محمد السادس، أن الأوان قد أزف، على شكل ومضمون حُكم ورثه عن ملك أوثوقراطي بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. لن يفهم أبدا كيف أن شباب عشرين فبراير خرجوا مرة أخرى إلى الشارع يوم 20 مارس، ليُعبروا عن رفضهم لدستور « موعود » ممنوح قال به هو نفسه.. كيف له أن يفهم وثمة مَن يقول له من جحافل المُتنفذين المُحيطين به: إياكُم يا صاحب الجلالة أن تُعطوا لرعاياكم أكثر مما يجب أن يُعطوا..
إنه نفس المنطق، في شكل مُنحدر بلا قرار، تنزل إليه أنظمة الحكم الديكتاتورية رويدا رويدا ثم حثيثا.. صحيح إن المتظاهرين المغاربة لم يرفعوا بعد شعار رحيل الملك والملكية، واكتفوا بالمُطالبة برحيل الفساد ومُفسدين من بينهم « منير الماجيدي » و « فؤاد علي الهمة » و « إلياس العماري » و غيرهم. لكن مَن يكون هؤلاء في نهاية المطاف؟ أليسوا أصدقاء وخلان الملك محمد السادس.. وحينما يرفض الناس أصدقاء الحاكم وخلانه (المستمدون نُفوذهم وجبروتهم، وبالتالي فسادهم وإفسادهم للشأن العام من علاقاتهم بالحاكم) فإنما يرفضون الحاكم نفسه، فهل يعي هذا الأخير هذه الحقيقة البديهية؟
لنقل أن ثمة في دار المخزن تردد وحيرة مُقيمان.. لا أحد يعرف « فين يعطي الراس » هل اتجاه استباق عناصر التغيير بقرارات ملموسة، من قبيل حل الحكومة والبرلمان والدعوة لإنتخابات سابقة لأوانها، تُعيد كل شىء من أوله على أسس جديدة متينة، كما يُطالب بذلك شباب 20 فبراير، متيمنين بالثورات المظفرة في أكثر من بلد عربي؟ أم المُراوحة في المكان في انتظار ما تأتي به الأيام من مُستجدات قد تحمل سراب خلاص أو نهاية بئيسة؟
إنَّ أسوأ وضع قد يجد فيه المرء نفسه، هو ذاك الذي لا يستطيع فيه لا التحرك أو البقاء حيث هو، بينما أمر جلل سينزل به، مثل جلمود صخر يُحدق من عِلّ، كما في أحلام الكوابيس.
ينقسم نساء ورجالات الدولة من رؤساء وملوك ووزراء وزعماء أحزاب وعشائر.. إلخ إلى نوع رُؤيوي (وهذه فصيلة نادرة جدا جدا) ونوع متوفر مثل أعداد البشر في جمهورية الصين الشعبية، ونعني بهم المسؤولون العاديون الذين يعيشون يومهم ولا ينظرون لغدهم.. النوع الأول يحدس التغيير القادم قبل أن يحدث، فيسبقه باتخاذ قرارات مصيرية، مثلما فعل الرئيس « ميكاييل غورباتشوف » في ما كان يُسمى بالإتحاد السوفياتي، حينما اعتمد سياسة « الغلاسينوست » (الشفافية) بعدما وقف على درك الإنهيار والفساد الذي وصل إليه الحزب الشيوعي الحاكم في بلاده.. وبالرغم من أن السياسة الإصلاحية التي اعتمدها « غورباتشوف » في بلاده ثمانينات القرن الماضي، جرت ويلات عديدة أخطرها تفكك امبراطورية بأكملها وانفصال أطرافها التي كانت موصولة بها قسرا، وأهونها انتشار حالة الفوضى في البلاد، وهيمنة المافيات المتخصصة في تجارة حالات الحرب والفوضى.. وفداحة الثمن الذي دفعه أفراد المجتمع، كما في كل تحول من ذلك الحجم.. فإن ذلك كان أهون من اندلاع حرب أهلية بلا بداية ولا نهاية.. فكان المرور الذكي سنة 1991 من الفيديرالية الشيوعية الشمولية للإتحاد السوفياتي، في آخر نسخة لها مع « غورباتشوف » إلى الرقعة القومية الروسية مع « بوريس يلتسين ».. وما زال تاريخ التحول يُسَطَّر حتى هذه اللحظات، لتمر بلاد « تولستوي » و « ليرمنتوف » من الشمولية الشيوعية إلى الليبيرالية على الطريقة الروسية.. ثمة حُكام رؤيويون قلائل آخرين مثل ملك إسبانيا « خوان كارلوس » الذي وقف في وجوه الجنرالات المكشرة، ما بعد « فرانكو » سنة 1975 ونقل بلاده من حكم الديكتاتورية العسكرية إلى الأغلبية الشعبية، زاهدا في سلطاته الملكية المُطلقة..
إنهم رجال السياسة الرؤيويون النادرون جدا، أما « الواقعيون » فهم « أكثر من الهم على القلب » بتعبير المصريين والمصريات، ويا له من هَمّ قاتل مُعطل لأمم بأسرها.
لن نُجانب الحقيقة إذا قلنا أننا في المغرب نرزح تحت هذا الضرب من الحكم « الواقعي » حتى النخاع.. حيث يُراوح نظام الحكم مكانه في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي.. مُفلتا على البلاد والعباد، لحظات تاريخية للتغيير من حال الجمود والفساد والتخلف، أي السير في الإتجاه الخلفي للتاريخ بدلا من قُذُمِه.. وسائر موبقات الحكم الشمولي، واحدة من تلك اللحظات التاريخية، كانت سنة 1999 حين رحيل واحد من أعتى الحكام الديكتاريين في القرن العشرين، ونعني به الحسن الثاني.. كان بالإمكان « تدشين » تحول ديموقراطي ضمن ملكية « حداثية » حقا وليس ادعاء.. بدلا من ذلك تم اختيار نهج سياسة الوجهين المقيتة: العصا والجزرة، والنتيجة مخزن جديد، يأتي على الزرع والضرع بأشرس مما كان عليه الأمر مع الحسن الثاني ومخزنه (الثروات التي راكمها محمد السادس وأصدقاؤه تفوق ما كان للحسن الثاني ومُتنفذيه، إذا أخذنا بعين الإعتبار ما ورثه الإبن عن أبيه وأضاف إليه في ظرف أحد عشرة سنة، وأن أصدقاءه – أي الإبن- يستثمرون في جل قطاعات تُزاوج بين « الأصالة والمُعاصرة »).. النتيجة كذلك قوانين للتضييق على المجتمع (قانون الإرهاب) وتكميم للصحافة.. وتمييع المشهد السياسي بفبركة حزب ملكي ب « زعامة » صديق حميم للملك.. وغيرها من الأمور التي أفادت وتفيد لسان حال ملك وكأنه يقول: « خليوني ندير لي بغيت »..
إذن ها هي ذي عجلات التاريخ تغد الخطى حثيثا على إيقاع ارتفاع الحناجر والسواعد في اكثر من بلد عربي، لتدك أنظمة القهر والطغيان.. حيث أطل زمن الشعوب وأفل ذاك الذي كان للحكام.. وهو ما يعني أن إيقاع التغيير يتسارع. إذ ثمة سيف الزمن مصلتا فوق رؤوس الحكام العرب، فإما أن يُسلموا السلطات لشعوبهم، لتحكم نفسها بنفسها وِفق دساتير وأنظمة حكم ديموقراطية أو يرحلوا صاغرين مذلولين هاربين كأتفه المجرمين طرا؟
ماذا سيختار محمد السادس؟ أم تُراه سيظل مترددا حتى ينزل الحجر فوق الرأس..
مصطفى حيران
المصدر, 08/04/2011